فرج الله فودة.. الحلو

16 اغسطس 2022
+ الخط -

كان صديقي أبو صالح، كما عرفته قبل الثورة، يتحاشى الحديث في السياسة، وهذا أمر طبيعي في البلاد المحكومة بالاستبداد الأمني والعسكري. إنه واحد من الذين يعتقدون بصحة المثل القائل (الصمت حكمة وفيه السلامة)..

ولكن، ثبت أن هذا المثل غير صحيح، فعدد لا يستهان به من السوريين الصامتين شُحطوا من بيوتهم، في فترة الاستبداد المستمرة منذ 1970، ولم يُسألوا عن شيء قالوه، بل إنهم عُذبوا وسُجنوا ونُكل بهم، لأنهم سمعوا كلاماً يسيء للديكتاتور المجرم، وظلوا صامتين، فقد كان حرياً بهم (من وجهة نظر نظام العصابة) أن يتحولوا فوراً إلى مُخبرين، ويبلغوا فروع الأمن عن المسيء للرئيس المجرم. وهكذا؛ لا يكون الصمت حكمة، ولا يحقق السلامة!

ولكنني لاحظت، خلال الاتصالات الأخيرة التي تدور بيننا، أن أبو صالح يحاول أن يعرف شيئاً عن الأشياء التي لم يكن يعرفها في السابق. سألني، في آخر اتصال سؤالاً أضحكني، قال:

- أبو مرداس؛ من يكون (فرج الله فودة الحلو)؟

وعندما ضحكتُ، استغرب، وقال:

- هل في كلامي ما يُضحك؟

- نعم. فأنت تتحدث مثل ابن بلدتنا أبو خلدون الفايز الذي مازحه صديقٌ له، ذات مرة، بأنه سيطق له برغياً عند أمين فرع الحزب، فرد عليه قائلاً:

- طز.. علي الطلاق أنا لا يهمني حتى "أحمد القومي".

ولم يكن صعباً على صديقه الذي مازحه أن يستنتج أن المقصود: أحمد دياب رئيس مكتب الأمن القومي!  

هذه المرة أبو صالح هو الذي ضحك، وقال لي: يعني أنا غلطت بالاسم؟

- لم تخطئ، ولكنك دمجتَ اسمين ببعضهما، الأول اسمه فرج الله الحلو، والثاني اسمه فرج فودة، وكلاهما قُتلا غيلةً بسبب الرأي.  

- طيب. حدثني عنهما. مَن منهما الذي وضعوه في ماء الأسيد؟

- فرج الله الحلو، وهو لبناني، كان قيادياً بارزاً في الحزب الشيوعي السوري اللبناني.. هناك روايات عديدة تتعلق بمقتله، ولكن أكثرها منطقيةً أنه دخل سورية متخفياً، فقبضوا عليه، ومات تحت التعذيب، وخاف الجلادون من نتائج فعلتهم، فعمدوا إلى تذويب جثته بالأسيد، لإخفاء أثرها، فقد جرت العادة المخابراتية، منذ قديم الزمن، أن يُزال أثر الميت، كأن يدفن في مكان سري، أو يذاب، أو يقطع، ثم يخرج القَتَلَةُ إلى الناس بعبارتين جاهزتين، الأولى أننا لم نعتقله، ولم نره، ولم نقتله.. والثانية دعاء إلى الله، مع رفع اليدين إلى الأعلى:

- يا رب يا منتقم يا جبار اقتل قاتله!

- متى وقعت حادثة تذويبه؟

- سنة 1959، أثناء الوحدة بين مصر وسورية.

في مطلع حياته، كان أبو صالح ناصرياً، وبعدها صار بعثياً، ثم انكفأ على أعقابه، وآثر أن يكون حيادياً يعتنق المثل القائل: لا أبوك ولا أبو الشيطان. وكانت فكرته عن الناصرية أنها حركة ثورية، يقودها جمال عبد الناصر، تسعى لتوحيد الأمة العربية، بغية بناء دولة قوية تضاهي دول العالم العظمى. ولذلك اندهش عندما قلت إن فرج فودة قُتل وأذيب بالأسيد خلال أيام الوحدة، وقال:

- هل أنت متأكد؟

- طبعاً متأكد. وهذا تاريخ ليس بالبعيد، وكل المهتمين بقراءة تلك الفترة يعرفونه.

- غريب هذا الحكي. تقصد أنهم، أثناء الوحدة، كانوا يميتون الناس تحت التعذيب؟ والرئيس جمال عبد الناصر، أما كان يعرف؟

- بلى، يعرف. ولعلمك أن الموسيقار الكبير كمال الطويل وقع، ذات مرة، في حالة الاستغراب التي وقعتَ فيها أنت الآن، فعندما سمع بوجود حملة اعتقالات في مصر بسبب الرأي، اتصل بالصحافي محمد حسنين هيكل، وسأله عن صحة وجود اعتقالات، فقال هيكل:

- نعم. يوجد شيء من هذا القبيل.

فتساءل كمال: يا ترى الريس جمال عبد الناصر يعرف؟!

حاول صديقي أبو صالح إغلاق هذا الحوار، فقال:

- أنا أعتذر عن طرح هذا السؤال. نحن أيش يفيدنا النبش في الماضي؟

مرة أخرى ضحكت، وقلت لأبو صالح:

- أنت يا أبو صالح رجل طيب، وحباب، ومحترم. ولكنك، على ما يبدو متأثر، دون قصد منك، بجماعة "الله يطفيها بنوره". إذا كنت تريد الحق، إن أفضل شيء ممكن أن نفعله، نحن أبناء هذا الشعب الغلبان، بعد كل هذه المصائب والنوائب والكوارث التي تسقط على رؤوسنا مثل براميل بشار الأسد، هو النبش في الماضي. يجب أن نتحول جميعاً إلى نباشين.

- مع احترامي لرأيك حبيبنا أبو المراديس. ما الفائدة؟

- سأجيبك على سؤالك بطريقة متعرجة. إذا زحط إنسان اليوم، ونزل على ركبتيه، فانجرحتا، وتسربت إلى الجسم (عبر جروح الركبتين) تشكيلةٌ من الجراثيم، هل نعقم مكان الجروح، أم نتركها للزمن؟ هناك حالات يكون فيها الجرح عميقاً، ويحتاج إلى خياطة طبية، فإذا خيط الجرح بشكل خارجي، دون تجفيف وتعقيم، ماذا يحدث؟ سينشب صراع بين الكريات البيض والجراثيم، ويتشكل قيح، فإذا أهمل الطبيب الجرح، ولم يعالجه، سيبقى القيح في الداخل، وقد يؤدي إلى الإصابة بالغنغرينا، وهذه لا ينفع معها سوى بتر الذراع أو الساق.. هل تخيلت الموقف؟

- نعم. ولكن اسمح لي أن أختلف معك. برأيي أن المثال الطبي لا ينطبق على الحالة التاريخية.

- طيب، تعال إلى الحالة التاريخية نفسها؛ أقصد موضوع التعذيب في المعتقلات أيام الوحدة مع مصر. نحن هنا أمام ثلاث حالات، الأولى أن ننكر وجود تعذيب في تلك الفترة، ومبررنا إلى ذلك أن القائد المحبوب جماهيرياً، عبد الناصر، لا يمكن أن يسكت عن تعذيب مواطنيه العرب الوحدويين الذين يحبونه. الحالة الثانية هي أن نكون من جماعة الله يطفيها بنوره، ونبتعد عن هذه المنطقة الحرجة، ونقول دعوا الشخصيات التاريخية ترقد بسلام. ومعنى هذه الحالة، الثانية، أن نسكت الآن عن جرائم حافظ الأسد ووريثه، ثم يصبح بإمكان أبنائنا، بعد خمسين سنة، أن يقولوا: بشار الأسد كانت له ظروفه التي اضطرته لقتل السوريين، ويجب أن نتفهم تلك الظروف! ويقول آخر، بشار كان طبيباً دارساً في بريطانيا، ومن غير المعقول أن يقتل أبناء بلده، ويقول ثالث: دعوا التاريخ بحاله، لماذا النبش في التاريخ الآن؟

سكت أبو صالح حتى ظننت أن الخط انقطع. وتوقعت أن هذا الحديث تسبب له بشيء من المقت. فقلت:

- على ذكر العمليات الجراحية، والتعقيم والتطهير، تعال أحك لك قصة أظنها طريفة.

- أنت عيني أبو مرداس. يمكن أن تحكي لي القصة لاحقاً. سأغلق الخط، وآخذ فرصة للتمعن بالكلام الخطير الذي سمعته منك. ثم أعود إليك.

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...