غيابة الجُبّ العربي!

29 اغسطس 2021
+ الخط -

من أكثر الأخطاء الدرامية شيوعاً في أفلامنا ومسلسلاتنا العربية أنّ حوار الشخصيات ينطق أحياناً بلسان الكاتب وليس بلسان الشخصية نفسها، لذلك تعود الكثير من كتاب السيناريو على أن يضعوا آراءهم في الحياة والكون والحكمة التي يريد إيصالها للأجيال على لسان شخصيات بسيطة لا يفترض بها أن تقول ذلك الكلام "الكبير"، هذا إذا كان ذلك الكلام التافه مهما بدا عميقاً يستحق أن يقال أصلاً على لسان أحد كائناً من كان.

لعلك تذكر كيف كنت ترى الأشرار في أفلامنا العربية القديمة يتحدثون عما يرتكبونه من شر بشكل مبالغ فيه لزوم التطهير الدرامي والعظة والذي منه، وحتى عندما تطورت المهنة مؤخراً، لا زلت تجد العديد من الكتاب يقومون بتصوير الشخصية الشريرة تظهر متضايقة للغاية من شرها، لدرجة أننا نراها أحياناً تبحث عن مبررات لفعلها الشرير كأنها محرجة من فعله، مع أنّ الشرير الحقيقي كما أظن لا يعيش أي صراع درامي من أي نوع، ولا يخطر على باله عمل أي تبريرات لأفعاله، بل هو مستسلم تماماً لفكرته الشريرة ويراها عين الحق.

لا أظن مثلاً أنّ حاكماً عربياً وقف قبل اتخاذ قرار سيؤدي إلى ارتكاب مجزرة تقتل المئات من أبناء شعبه ووقف في لحظة تأمل ليقول على طريقة أفلام الكونغ فو المدبلجة "أعرف أنني أتخذ قراراً صعباً يمكن أن يضيع البلاد بأكملها لكنني لا أجد طريقاً آخر ولذلك بكل أسف مضطر لقتل شعبي"، بل على العكس ربما اتخذ قراره بالقتل وهو مستمتع بمياه حمام السباحة أو مستسلم لأصابع مدلكة مساج بارعة.

دعك من سيرة الحكام العرب التي تغمّ النفس، واستمع معي إلى سورة يوسف التي تروي واحدة من أشهر القصص الدرامية في التاريخ، وتأمل كيف تتكلم كل شخصية في القصة باقتناع شديد بموقفها، لأن خالق البشر يعرف طبيعة أغلب البشر، وأنهم ليسوا مشغولين بالشك والحيرة والتأمل، بقدر ما يفضلون تكوين مواقف مسبقة وتبنيها والدفاع عنها على طول الخط، خذ على سبيل المثال إخوة يوسف وهم يجلسون للتآمر على أبيهم يعقوب دون أن يقوم كل منهم بالتنظير والتبرير المستفيض لموقفه، بالعكس فقد لخص رب العزة موقفهم في عبارة شديدة التكثيف والدلالة "قالوا ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا إن أبانا لفي ضلال مبين"، قالوها بمنتهى الاقتناع أنّ أباهم "في ضلال مبين"، ولذلك قرروا بضمير مستريح أن يأخذوا ذلك القرار الفظيع برمي أخيهم في غيابات الجب.

فكِّر في كل هذا وأنت تتأمل كل من حولك، واحسب كم شخصاً منهم لديه قناعة يقينية لا تقبل الشك أن كل من يختلفون معه "في ضلال مبين"، وكيف يتصرف بناء على هذه القناعة، دون أن يكون لديه أي مانع في فعل أي شيء يتوافق مع تلك القناعة حتى لو كان قتل غيره أو طرحه أرضاً، احسب عدد هؤلاء واحسب عدد الذين لا يزالون يشعرون بالحيرة أو الشك أو الرغبة في التأمل والتفكير قبل الحماس لأي شيء، وقارن العددين ببعضهما ستعرف عندها لماذا نعيش "في ظلام مبين"، إلا إذا كان لديك شك في أننا نعيش في ظلام مبين، وساعتها لن أطرحك أرضاً، بل سأطلب منك أن ترمي كل ما قلته في غيابة أقرب "جُبّ" يقابلك.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.