غزّة.. وزر الصمود

08 فبراير 2024
+ الخط -

يستوقفني هذا العالم عند هبّاته المتباينة التي تثورُ تارةً، وتهدأُ تارًة أخرى، بناءً على التفاوُتِ في شدّة الجريمة التي يرتكبها المحتل الإسرائيلي، وكأنّما لا بدّ من ارتكاب الأقذر والأقسى بحق الغَزّيِّين؛ لإعادة التّذكير بما نتداوله بين الفترة والأخرى بعبارة "كي لا ننسى".

كيف لا؟ كيف لا، ونحن على بعدِ مسافةٍ طويلة المدى، شكلًا ومضمونًا، تتخلّلها المعابر والحواجز المحيطة ببقعة جغرافيّة محاصرة، ناهيك عن الغلاف المُقتَطَع الذي تمّ سلخه عن لواء غزّة، أَم أنّ الحواجز تشبَّعت حول هذا النمط الذي يُستَعصى تغييره في مخيالنا؟

مخيالٌ فلسطيني الهُويّة، أُعيدت هيكلته في إطار رؤيا ليبرالية مستحدثة، تجعل من الهم الوطني مشتتًا، تفصله عن بعضه الحدود المهيمنة على أذهاننا جغرافيًا وماديًا ومعنويًا، وفكريًا كذلك، لتكرّس استمراريّة تطبيع الحال، من اجتياحات واعتقالات وقصف عشوائي بين الحين والآخر، إلى أن يشتد وطيسه فجأة، فتثور الهبّات والحراكات اعتراضًا على اشتداد التنوّر الّلا معتاد. لكن رغم ذلك، فإنّ الوجود الفِلسطيني مؤدلج بأفكارٍ باتت جزءًا لا يتجزّأ من الكينونة الفلسطينيّة، بما فيها مِن عبارات راسخة تكاد تكون تراثًا أو أصلًا مِن أصول الهويّة، كما هو الحال في "فلسطين ولّادة"، "راحوا بنجيب غيرهم"، "بهمّش بعوِّض الله".. جلّها تعبّر عن ثباتِ الفلسطيني، ورسوخِ جذوره على هذه الأرض.

ولكن، أَما آن لشديدِ ارتباط صورة المقاومة والصمود بالغزّيين أن يلين؟ أم أن الفكرة القابعة في عقولنا حول صبر الغزّي وقدرته الفائقة في الاحتمال دون غيره لا تقتلع؟ كما يقتلع الجذر من أرضه، لتحلّ محلّه قسرًا تلك العشبة الضارّة؛ لتُفسد ما حولها بشكل أو بآخر.

أَما آن لشديدِ ارتباط صورة المقاومة والصمود بالغزّيين أن يلين؟ أم أن الفكرة القابعة في عقولنا حول صبر الغزّي وقدرته الفائقة في الاحتمال دون غيره، لا تقتلع؟

أمل، وألم، هي الكلمة ذاتها، إلّا أنّ التلاعب بحروفها كما التلاعب في أعصابِ شعبِ غزّة واختلاط عواطفهم ما بين الألم، والأمل واليقين بالفرج، عاجلًا كان أم آجلًا. ألا يستحقون متنفسًا من المخيال العام بصورته المقيّدة لهذا الشعب، من عاتق المقاومة والصمود الدائم أمام المعاناة والفاجعة التي ما زالوا يُفجعون بأحداثها يومًا تلو الآخر، ولحظة بلحظة، أَم أنّهم يمتلكون سمات القدرة على المكوث في عالمٍ مصغّر يتم التلاعب بخط سير الحياة والموت فيه، ويكتفون بتقديم أرواحهم؛ بفعل عبء المسؤوليّة المُلقاة على أكتافهم، شاؤوا أَم أَبَوا؟

ازدواجيّة فكريّة في اللاوعي، ما بين التعاطف والتضامن الافتراضي في معظم الأحيان، والمادي الفعلي على أرض الواقع في بعضها، وبين العتاب وإلقاء اللوم على من يحاول في القطاع كسر صورة الالتزام الوطني في تَشبّث الغَزّي بحيّزه وسط الحرب والإبادة الجماعيّة الدامِية بحقّه، محاولًا النجاةَ بانتزاع حياته من على حافّة الهاوِية التي تُفضي إلى انتشالِ جثته على أمل أن تكون كاملة، كما يتمنى من هم ما بين الألم والأمل يجلسون فوق ركام ما تبقى من الذاكرة المتخيّلة، أو أشلاء بشكلٍ تستحيلُ على المشاهد من وراء شاشات الهواتف رؤيته، ويصعب غالبًا عرضه، فهو محتوى "حسّاس" يتنافى مع قواعد المنصّات الافتراضيّة ذات البعد الواحد في الانتشار؛ جرّاء شهوة الاحتلال في القصف العشوائي المدمّر الذي يحولُ دون كبح رغباته المستفحلة من جانب، وحرب التجويع ومحاصرة وتفتيت كلّ مقوّمات الحياة التي تنسف حتى مجاراة الذّات البيولوجية زمنها الدائري بمساره المتعرّج على الجانب الآخر..

ما بال هذا العالم يرى بأنّه مِن الصعب التحكّم في الأفكار والمشاعر، في حين أنّ ذلك الوزر الذي يلقيه على عاتق الغزيِّين، بات همًّا يثقل كواهلهم، بأجسادٍ تُفنى وأرواحٍ تحترق، صابرين محتسبين؛ كونهم الغزيّين الذين يحملون أسطورة الصمود المقاوم في حيّز القطاع.

ردينة عطا
ردينة عطا
كاتبة، وخريجة بكالوريس علم اجتماع، قسم علم نفس في جامعة بيت لحم.