غزّة.. عبَثيات الإنزال
لا تزال الحرب قائمة، وما زلنا نتحدّث عنها، وما تُثيره من قضايا كان لا بدّ من استرجاعها وإعادة النظر فيها، أو قضايا جديدة تستدعي التداول والإشارة إليها.
ويأتي دور الإعلام هنا في النشر واستثارة القضايا على اختلافها بما يتعلّق بالحرب، بالإضافة إلى استثارة العواطف والعمل على تجييشها، كلٌّ في سبيله وغايته، فكلّ طرفٍ يحاول تشكيل البروباغندا الخاصة به دونًا عن غيره؛ في سبيل الاستحواذ على أكبر قدَر ممكن من المؤيِّدين في صفوفهم، وإلى جانبهم، عن طريق استثارة العواطف أو العقائد وغيرها من الأمور المُتفّق عليها اتفاقًا اجتماعيًا، تأخذ في مضمونها ما يُعرف بالعقد الاجتماعي، كما أوضَحه المُفكر جان جاك روسو، باتفاق ضمني يتصف بأنّه شيء معنوي متعارَف عليه، ولا يستدعي المادية الحَرفية في التعامل على أساسه. وأبسَط مثال على ذلك، قد يتمثل بالاتفاق على العادات والتقاليد، أو بشكل أدَق تفصيلًا، الاتفاق على العلاقة ما بين الشعب والدولة الحاكمة بالالتزام بالقواعد والقانون في مقابل توفير الأمن والحماية، كما قد يفسّرها في دراسته للمجتمع.
وفي العودة لتشكيل البروباغندا الخاصة بكلّ طرف، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأطراف في هذه الحرب التي أصبحت حديث العالم أجمع، ومصدر اهتمامٍ يُبرِز كلّ ما مضى وما سَيَمضي في التاريخ، متعدّدة لا تقتصر على مَن يشُنّها، ومَن يتصدّى ويتعرّض لها، فإنّ خير مثال عليها هو النكبة، أو ما تمّ الادّعاء بأنه "حرب استقلال"، مع التحشيد في سبيل اتخاذ موقف مؤيِّد لسياسة التطهير العرقي والحَث على المشاركة في ممارستها كَحَق، التي ساعَد على تفصيل أحداثها وأرشيفاتها المفكر إيلان بابيه؛ ما أدى إلى تناثُر هبَوات ادّعاءاتها على أنّها حرب "استقلال"، تتمثّل في صراع يعقبه العواقب الطبيعية، على اعتبار أنّها طبيعية وتحصيل حاصل في منظورهم، لأي حربٍ كانت، في أرجاء البلاد؛ لكثرة ما اتّضح فيها من تضليلٍ إعلامي واجتزاء للحقيقة، كغيرها من الحروب والمجازر التي لا تزال تُرتكَب، وتَجهيل الأطراف الخارجية لأحداثها إعلاميًا.
أطفالٌ تتحوّل أجسادهم رويدًا رويدًا، إلى هياكل لا يكسوها سِوى الجِلد البشري، تتلاشى ملامح وجوههم البريئة شيئًا فشيئًا
وفي أحدث ظهور للبروباغندا الصهيونية، ما يدّعي الدفاع عن الأرض المُغتَصَبة كَردّ فعل، عبر استخدام سياسة الأرض المحروقة؛ للتوغّل في الأراضي التي تحوّلت إلى مواقع مُدمّرة خالية من أيّ وجه لأوجُه الحياة، من خلال القصف المتواصل والأحزمة النارية للمربعات السكنية، وحرب التجويع التي تقتضي منع أيّ شكل من أشكال المساعدات التغذوية، بواسطة شتّى الطرق في إعاقة مرورها، كما في التّظاهُر بِعدم القدرة على منع المُعارِضين لِدخول المساعدات مِن سلوكياتهم الهمجية في إعاقة التوصيل؛ الأمر الذي ساهم في تَفَشّي كارثة الأمعاء الخاوية وسوء التغذية التي يُجابِهها الشعب، فما كان من الأطراف الأخرى سِوى تقديم المساعدات على شكل عمليات إنزال جوية في محاولة لِمَد يد العون "على قَدَر طاقاتهم".
في الحديث عن المساعدات الجوية، لا بُدّ من توجيه النظر نحو التاريخ وما يُدَوّن فيه من أحداث، فكتابة التاريخ عادةً ما تتم من أعلى، وشيءٍ من أسفل، أيّ من عامة الشعب، وتَنحِيَة مَن يكسر الصورة الجمعيّة للقضية أحيانًا، وهنا نتحدث بِما ساهم الإعلام في نشره من توجّهات وتعابير لأصحاب القضية الحالية ذاتهم، ومن خلالهم، لا بِاسمِهم، فَنرى محاولات أخرى في تشكيل بروباغندا خاصة قد يكون فحواها الاستعراض وصرف النقد وإزالته، أو "فعالية إعلامية"، كما وصفها الصحافي، أنس الشريف، حول خدمة الغايات الخاصة.
وسط عبثيّة المساعدات الجوية في حرب التجويع هذه، التي تتقارب عشوائيتها مع الأشلاء المُبعثرة هنا وهناك، في مواقع بعيدة أحيانًا يصعُب الوصول إليها، مع ميّزة مؤسفة للأشلاء، بأنّها أكثر عددًا، تقبَع ذواتٌ تحاول الوصول إلى أساسها البيولوجي في محاولة للبقاء على قيد الحياة، بشكل قاسٍ وعسير، وكأنّ عمليات الإنزال تعمل على إعادة الحياة من حالتها المستحدثة المستمرة، إلى سَجيّتها البدائية والمَشاعيّة، التي تسيطر فيها الغريزة الحيوانية للإنسان على ذاته، بِكونه عدوانيًّا، في حالة تنافس غوغائي في بعض الأوقات، وسباق مستمر يسعى فيه للحصول على ما يُرقِّق صلابة تلك الغريزة مِن (دقيق، وماء، وتمر)؛ لضمان مواصلة التصدّي لحرب الأمعاء الخاوية..
أُناسٌ جِياع، لا يستطيعون النوم من شدّة الأمعاء الجوفاء، الخالية حتى من المياه الصالحة للشرب
حقيقةً، هي حالٌ يُرثى لها؛ لِما وصلت إليه أَعِزّة الأنفُس؛ جرّاء هذه السياسات الصهيونية المُمنهجة، العشوائية في ظاهرها، أُناسٌ جِياع، لا يستطيعون النوم من شديد الأمعاء الجوفاء، الخالية حتى من المياه الصالحة للشرب، أطفالٌ تتحوّل أجسادهم رويدًا رويدًا، إلى هياكل لا يكسوها سِوى الجِلد البشري، تتلاشى ملامح وجوههم البريئة شيئًا فشيئًا، إلى حين خلاصهم، مِن الهمّ الذي يُثقل كواهِل ذَويهم؛ بسبب ما يفتَعله الاحتلال بشكل مُتعمَّد من محو وتطهير، ولو كان من خلال الحرمان والإعاقة في توصيل المساعدات.
شتّان ما بين حياة الشعب التي كان يتم اعتبارها طبيعية في ظل الحصار والسجن المغلق الذي تم الاعتياد عليه، وما بين هذه اللا حياة التي بات الغزِّي فيها يتسلق الجدران، وأعالي أسطُح البيوت التي لم تهلَك بعد، ويقطع مسافات طويلة لعدّة ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة، أو البرد وغزارة الأمطار التي تتمثل في جانبين أحدهما سلبي، يكمُن في صعوبة النوم والثبات في الخيام وغرقها، والآخر إيجابي، في الحصول على قطرات من الماء تروي جفاف أجسادهم، أو حتى غزارة الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم، في حال تحرّكهم أو تنقلهم على الطريق الذي يسمّى "بالآمن" من منطقة إلى أخرى، في سبيل الحصول على بعضٍ من المواد التموينية والغذائية في عمليات الإنزال العَبثية التي لا تُضاهي نسبة الحرمان المبالغ فيها، فيظهر على وسائل الاتصال الجماهيري، قهر الشعب لِما يشعر به، وما يَراه من عجزٍ خارج إطار السجن المغلق والعقاب الجماعي.