غزة... عندما يستحيي الشيطان من جرم الإنسان

27 أكتوبر 2023
+ الخط -

لم تستطع الأستاذة التركية "نورية" أن تجد الجواب الشافي لصورة تاريخية تجسّد مأساة إنسانية بعد محاولاتها المتكرّرة أمام طلبتها لكشف ما تحتويه من المعاني والدلالات المخفية؛ فهي دائما ما تتعمّد أن تقوم بعملية عصف ذهني علّها تفضي بها إلى ما يرتقي بطلبتها في مادة "تقنيات الريبورتاج والمقابلات" التي تدرّسها لنا، فتسعى جاهدة لفكّ رموز صورة ما أو لوحة فنية معينة ذات بعد فلسفي بعد أن ترسلها في المجموعة الخاصة على تطبيق "واتساب"، المتعلّقة بالمادة المدروسة، لينكبّ الطلبة على تحليلها وقراءتها وإعمال النظر فيها، ثم تأتي مرحلة المطارحة الفكرية والحوارية حول المخرجات الدلالية والمعنوية التي تتطلّبها كلّ صورة أو لوحة على حدة، عبر مختلف الوسائل البيداغوجية، كالسؤال والإلقاء والحوار وحلّ المشكلة والاستفزاز الخيالي، بل توجيه الأمر إلى المصوّر والرسام الذي نحتها، وهو ما كان مع عملية الإرسال التي جرت مع هذه اللوحة التي استعصى على الجميع معرفة مغزاها.

الصورة
غوستاف دوريه
(لوحة "عائلة شارع البهلوان: الطفل المصاب" للفنان الفرنسي غوستاف دوريه)

ولم أكن بمعزل عن الباقي، إلا أنّ حال أهل غزة لا يكاد يفارق مخيلتي، خاصة مع عناق الأم لطفلها الصغير بقوة جارفة (وسط اللوحة)، والذي أخذ المساحة الكبرى منها، ثم تجرّدت من أهل غزة لأجد نفسي غارقة في تأمل الصورة "أم تعانق طفلها الصغير بكلّ قوة، وتحاول أن تمنحه المزيد من الحب والدفء وسط نهر من الدماء التي تنساب حوالي الأم والطفل"، وهو ما أفضى إلى نهاية مأساوية بين الأم وولدها؛ فلم يبق هناك أيّ أمل لإعطاء المزيد من الحبّ للطفل، فقد تلقى إصابة في رأسه حيث تنزف الدماء الغزيرة منه، ونتيجة لذلك، فارق أو فارقته الحياة، أو على الأقل يوشك على ذلك. فأيّ فائدة بعدها من الحب لشخص لم يعد قلبه على قيد الحياة ليبادلك نفس الشعور؟

 صحبت في مخيلتي صوراً كثيرة لهذا المعنى؛ إلا أنّ التساؤل بقي محتدماً: ما مقصود الفنان من العطاء لأسمى شعور لشخص ما فقد خاصية الاستجابة؟! وما الفائدة من التواصل مع العجز الكلي والتام الذي يبديه الآخر؟! وهل هذا ما يقصده الرسام من هذه اللوحة حقا؟!. لكن، صورة الأم وهي ملتصقة بولدها، تعطي أكثر من دلالة عنها، سواء في ما تعلّق بالألم والفقدان، أو سوء الطوية الذي انطوت عليه وضعية الجالس إلى جانبها، إضافة إلى ذلك، هناك سؤال تجرّع الألم والفقد، بل وتقبله من طرف الأم والعالم واقف أمامك يتفرج دون أن يحرّك ساكنا لمحاولة مساعدتك حتى في إنقاذ طفلك الصغير، إلى سرّ المناسبة التي تجمع هذه الصورة والواقع المرير الذي يمّر به أطفال غزة وسط أطنان من القنابل، والطائرات التي تُردي العشرات من الأطفال في كلّ لحظة؛ وهو نفس الشيء الذي يحدث اليوم للأطفال في غزة حين ترتقي الأرواح البريئة إلى خالق السماء، فتنتشر الأشلاء وتتبعثر الأجساد وتلتصق الجثث وسط صورة هلامية من الصراخ والأنين والألم الداخلي!.

حاولت جهدي أن أقترب أكثر من الصورة وتاريخها عبر محرّكات البحث لمعرفة ما تخفيه؛ فوجدت أنّ للوحة قصة غريبة فعلاً. فعندما استيقظ الفنان الفرنسي غوستاف دوريه في أحد صباحات سنة 1874، وقرأ في صحيفة ما أنّ عائلة فقدت طفلها جرّاء استعراض بهلواني في السيرك، فقام برسم هذه اللوحة التي تركت تأثيرا كبيرا في تطوّر الفن التشكيلي في أوروبا، ونُسجت حولها العديد من الأفكار لتُعرف بعدها بـ"عائلة شارع البهلوان: الطفل المصاب"، حيث مثّل فيها غوستاف مشهدا تراجيديا ممتلئا بالكثير من الألم الذي يجسّد فقدان طفل ما خلال استعراض بهلواني لتسلية الحضور، لتمتلئ عينا الأب بالدموع، بينما تطرق الأم رأسها بيأس تندب مصابها، في تناقض صارخ مع أزيائهم المبهرجة!.

على الرغم من ذلك، لم أكتف بهذا التحليل، خرجت من الفصل والصورة لا تبرح مخيلتي، لأجد أستاذاً لي في مادة الفلسفة جالساً في حديقة الجامعة ينفث سيجارته ويحتسي قهوته المرّة. دنوت منه طالبة منه القيام بتحليل الصورة لمعرفة ما يتصوره فيها وما ستجود به قريحته عليها، وما سينسجه من أفكار كما كان يفعل أثناء حصصه الجامعية للقضايا والإشكالات المعرفية والفلسفية التي تصعب مقاربتها دون تراكم معرفي وتجربة أخاذة وذكاء محتد، يبدو أنّ أستاذي قد نال نصيبه الوافر منه. نظر الأستاذ مليا إلى الصورة، وقال: "أحيانا يقوم الإنسان في هذا العالم بعمل سيئ جداً حتى الشيطان يحزن لذلك مع أنّه شيطان!! ويستحيي من فعله وممارسته، فانظري الآن لما يحدث في غزة وتأملي التقتيل الذي تمارسه إسرائيل في حق الأطفال دون رحمة ولا شفقة، وتمعّني في التشريد الذي يمارسونه لشعب كامل، فأنا أتخيّل هذه السيدة من إحدى السيدات التي تفقد أطفالها يومياً في غزة، وأنّ الرجل بجانبها شيطان حزين يواسي ألمها وانكسارها، ألا يحزن الشيطان نفسه لهذا المنكر!".

عندها فقط حاولت أن أستجمع الخيط الناظم لكلّ هذه الأجزاء المبعثرة، وأن أربط بينها في سلسلة لم تبدأ لتنتهي، وإنّما سيّرتها الأيام حقيقة ناصعة لمآل الإنسان في عصر الارتداد عن القيم الإنسانية التي لم يعد من الصعب إيجاد مداخل لها في عملية نكوص، ربّما يستحي الشيطان من فعله ويحزن حتى من اقترافه، فضلاً عن المشاركة فيه، إلا أنّ يدّ الإنسان تمعن بكلّ ما أّوتيت من قوة وجبروت في قطع دابر الأرض، ومن يتعايشون حولها، وللأطفال أكبر النصيب من هذا الألم!.

ريهام أزضوض
ريهام أزضوض
كاتبة وباحثة في قضايا النهضة، خريجة من جامعة أسكودار في قسم الاعلام الجديد والاتصال في اسطنبول بتركيا، درَستْ القانون في جامعة محمد الأول في المغرب، تقنية وخبيرة في التجميل الطبي للعناية بالبشرة والشعر. تعرف نفسها، بالقول: "اصبر ثم اصبر حتى يتغنى الصبر بك".