عيد في اليمن... هل يعود الغائبون كما كانوا؟
في العام 2015، كان أوّل عيد شهدته العاصمة اليمنية صنعاء في الحرب. تعود بي الذاكرة إلى ذلك اليوم، وقد كان عيد فطر أيضاً، حيث العاصمة غارقة في الظلام والقلق. ومع ذلك تمردت على الخوف، معلنة عيدها، خرج الجميع صباح العيد للصلاة ثم التزاور وصلة الأرحام.
توارى القلق، وامتلأت الأحياء بالأطفال المزهوين بملابس عيدهم وعيدياتهم... كان عيداً، حميمياً، جميلاً، حمدنا الله على نعمة اجتماعنا فيه، على الرغم من الحرب والقهر والظلم والظلام.
واليوم، فإنّ العاصمة صنعاء، ومعها سائر المحافظات اليمنية تضيء بالأحرار؛ فمنذ أيام تسنّى لمئات الأسرى العودة إلى أسرهم بعد أن سرق الأسر أعواماً من حياتهم، ما يطرح أسئلة وشجونا كثيرة: ماذا عن طفل يرى أباه ويتعرّف عليه للمرة الأولى في العيد؟! هل سيجده كما رآه في الصور القديمة التي أروه إياها؟ هل سيتطابق شخصه مع ما نسجه في خياله عنه، مستعيناً بالحكايا التي سمعها عنه أو قليل من ذكريات (إن وجدت)! البعض أُسر أبوه، وهو ما يزال في المهد، أو أكبر قليلاً، ولا يتذكر سوى خيالات غير واضحة. فضلاً عن آخرين لم يعلموا أصلاً أنهم آباء؛ فقد تمّ أسرهم قبل أن يصل إليهم خبر حمل زوجاتهم بأطفالهم؛ فكيف ستكون المفاجأة لأحدهم حينما يستقبله طفل لم يعلم عن مجيئه أصلاً؟! وماذا عن أب يحاول خلق مساحة له في حياة أطفال لم يعرفوه إلا من خلال الحكايا، يحاولون التعرّف على شخصه، مستعينين بتلك الحكايا والصور الفوتوغرافية القديمة.. أب يجد نفسه غريباً في أعين أطفاله، يحاول أن يزيل الحواجز ويناضل من أجل استعادة مكانه في قائمة المحبوبين عند أطفال لا يدرون، ولا يدري، كيف سيعوّضهم عن سنوات غيابه عنهم.
ماذا عن عيد ابن صلّى كثيراً من أجل لحظة عناق والديه؛ طوى المسافات ماحياً كلّ وجعه في طريقه إلى منزله؛ فلم يجد إلا قبوراً يقرأ أمامها الفاتحة على أرواح قتلها الحزن على فراقه، ليجد نفسه سجين حنين مؤّبد وحسرة على سنوات سرقت من عمره، قضاها بعيداً عنهم؟
هل سيعود الغائبون كما كانوا؟
هل سيعود كلّ منهم محتفظاً بملامحه؟ أم أنّ السجن قد صهرها وأشبعها شيباً، وربما أمراضاً مزمنة أو إعاقات؟ هل سيعود الغائب بروحه القديمة؟ أم أنّ السجن قد نهشها وأشبعها خوفاً وقهراً؟ هل سيعود بذات الشخصية التي عرفها أهله ومحبّوه بها؟ أم أنّ السجن بدل شخصيته بأخرى يصعب عليهم التعامل معها، بل حتى هو نفسه لم يعد يتواءم معها؟
خرج من السجن، فلم يجد إلا قبوراً يقرأ أمامها الفاتحة على أرواح قتلها الحزن على فراقه
كيف سيتعايش الأسرى المحرّرون (بالذات من طالت سنوات أسرهم) مع مجتمع تغيّر كثيراً جرّاء الحرب وويلاتها؟ وكيف سيحتوي المجتمع أسرى، ستقطع سعادته عودتهم بالجروح النفسية الصعبة التي امتلؤوا بها؟
حدثتني أم أحد الأسرى العائدين أنها لم تتوقف لعام ونصف عن الدعاء لابنها بأن يعود، تضرّعت لله كثيرا ألّا يميتها قبل أن تشبع من رؤية ابنها وتقضي معه، ولو يوماً واحداً، وإن كان الثمن عمرها كله. ثم عاد ابنها من السجن، لكن، وبدلاً من أن ترتوي من عناقه، أشبعها ضرباً، لاعتقاده أنها ستشي به لسجنه مجدداً! إنه يصرخ أثناء نومه من تعذيب السجان له، يصحو مذعوراً، يجري من غرفة إلى أخرى هرباً من أشباح يظنها تطارده، وكأنها اللعنة القديمة التي طاردت اليمني ليردّد الناس مجدّداً "ليته لم يعد!".
يقال في اليمن منذ القدم: "العيد عيد العافية" نعم، وهو أيضاً عيد الحرية، عيد السلام، عيد لم شمل الأسرة الواحدة، عيد العلم المرفرف في سماء وطن توّحد على الرغم من كلّ النزيف.
العيد هو عيد اليمن؛ البلد الذي لا يفرّط في عيده أبداً، ويخلق له دوماً أعياداً جديدة.