عن تبييض صورة الأنظمة السلطوية

17 ابريل 2023
+ الخط -

بات من المألوف أثناء احتساء القهوة مع أصدقاء، أو تناول العشاء مع مقربين أن يسترسل بعضهم ممن يحسبون على نخب المهنيين المحترفين ورواد الأعمال في الإشادة بالتغيرات وتمجيد الإنجازات وخصوصاً الاقتصادية في بعض الدول السلطوية في المنطقة، بحيث يمكن لأحدهم أن يتغنى ساعات وساعات بتطور الخدمات وفرص الاستثمار في هذا البلد أو ذاك، ويتناسى ذكر أن مجرد إعادة نشر تغريدة تنتقد نظافة الحمامات العامة في تلك الدولة قد تلقي بصاحبها في غياهب السجون إلى ما شاء الله.

وللأسف لم يعد الأمر مقتصراً على الأفراد، بل تعداه ليصل إلى التجمعات المهنية التي باتت تتسابق لتتمسح ببلاط الديكتاتور هنا وهناك وتطالب بإعادة تعويم أنظمة أقل ما يمكن أن توصف بأنها مجرمة حرب. ويسوق الجميع مبررات لا حصر لها تحت ذرائع الوطنية، ومعاداة الإمبريالية، وريادة هذه الأنظمة، والمؤامرة الكونية، وغيرها من الخزعبلات ولكننا نعلم وهم يعلمون أن الأمر قد لا يتعدى كونه طمعاً في بضعة دراهم غارقة في الدم.

كان من المفهوم استثمار الأنظمة المجرمة بشكل ممنهج في عمليات التبييض وتحسين السمعة، من خلال الإعلام مدفوع الثمن، ومجموعات الضغط، واستغلال الفن والرياضة والمشاهير

 

عملية تبييض صورة الأنظمة المستبدة ليست وليدة الأمس، بل هي عملية احترفها الغرب منذ مئات السنين في محاولتهم للتستر على جرائم إبادتهم للشعوب الأصلية في الأميركيتين، وما تبعها من استعباد إخوتنا الأفارقة لقرون، وما رافقها من استعمار ودعم شراذم المستبدين من دمى الغرب حتى يومنا هذا، حتى جرائم حروب أفغانستان والعراق وغيرها. وقد تعلم السوفييت ومن بعدهم الروس والصينيون من خصومهم في الغرب وبرعوا في عمليات تبييض صورهم بعد كل جريمة ارتكبوها. ويبدو أن العرب هم أجدد القادمين لهذا النادي، وبالطبع لا داعي لأن نشير لأن الكيان الصهيوني احتكر رئاسة هذا النادي سيئ السمعة منذ منتصف القرن الماضي. التبييض هو عملية تمويه وذر للرماد في العيون من أجل التستر على الجرائم أو الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان التي تقترفها هذه الأنظمة بطرق متعددة، بعضها يشمل العرض المتحيز للمعلومات ونشر أنصاف الحقائق وتعظيم الإنجازات الوهمية بهدف تحسين سمعة النظام المستبد وتشتيت الانتباه عن انتهاكاته.

ولفترة قريبة كان من المفهوم استثمار الأنظمة المجرمة بشكل ممنهج في عمليات التبييض وتحسين السمعة، من خلال الإعلام مدفوع الثمن، ومجموعات الضغط، واستغلال الفن والرياضة والمشاهير، وشراء الذمم هنا وهناك. في النهاية أستطيع التعايش مع فكرة أن هذه جهات مرتزقة تحركها المصلحة والأموال وعليه فلديها ما تكسبه مباشرةً من عمليات التبييض. ولكن المحزن رؤية من يفترض أنهم النخب يتحولون طوعاً ومجاناً لأدوات تبييض صورة أنظمة مستبدة، يمجدون المستبد بوعي أو دون وعي في كل مناسبة اجتماعية، ويستبسلون في الاحتفال بالنجاحات التي يكون غالبها وهمياً على وسائل التواصل الاجتماعي،  يتبرعون من تلقاء أنفسهم للمشاركة في عملية تحسين سمعة مجموعة من منتهكي حقوق الإنسان وبلا مقابل! أتفهم أن لقمة العيش قد تكون صعبة، ولكن من جهة ينطبق عليهم قول إبراهيم طوقان "قد يُعذرونَ لو أنَّ الجوعَ أرغمهم، والله ما عطشوا يوماً ولا جاعوا"، ومن ناحية أخرى هم أصلاً ليسوا مطالبين بأداء هذه الأدوار القذرة ويمكنهم من باب أضعف الإيمان أن يلتزموا الصمت. ما يرعبني حقاً أن يكونوا في دواخلهم مقتنعين حقاً بما يقولون وأنهم يملكون نفس الفكر المستبد والإقصائي الذي يروجون لأصحابه.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.