عن بعثة جورج مكارتني للصين سنة 1792
أشار الإمبراطور تشيان لونغ برأسه ولم يرد، فقط أمر بكتابة رسالة مقتضبة لجورج الثالث، تقول: "لا نعير الآلات العبقرية أي اهتمام وليست لدينا حاجة على الإطلاق لمصنوعات بلادكم، ومن ثم، أيها الملك، فإن طلبك في إرسال شخص يقيم بالعاصمة، لا يتسق مع أحكام الإمبراطورية السماوية كما أننا نشعر أن هذا لن يكون في صالح بلادك".
كان ذلك رد الإمبراطور الصيني تشيان لونغ من سلالة تشينغ، على طلبات الرسول الإنكليزي للصين. والتي كانت البعثة الأولى التي أرسلتها إنكلترا إلى هذه البلاد البعيدة. حيث إنه في ذلك الوقت لم يكن للصين تمثيل دبلوماسي خارج البلاد، وكانت لا تستقبل أي بعثات/سفارات أجنبية على أرضها.
كان مكارتني محملا بطلبات واضحة للصينيين، تملؤه ثقة المنتصر المتفوق، ولكنه على الأرجح لم يكن يعلم الكثير عن الصين، والتي كانت القوة العظمى في هذا الوقت قبل الصعود السريع لإنكلترا.
أُعد للرحلة بحرص شديد، بغرض إبهار الصينيين وإقناعهم بفتح موانئ البلاد أمام تجارة الأفيون وغيرها من السلع الإنكليزية، لتعويض عجز الميزان التجاري بين الصين وإنكلترا، التي كانت تبدد ذهبها في استيراد أطنان من الشاي والحرير من المملكة الوسطى. من أهداف البعثة أيضا، إقناع الإمبراطور الصيني بالسماح بالتبشير المسيحي على الأراضي الصينية، وقبول التمثيل الدبلوماسي الإنكليزي في البلاد.
وقف مكارتني منتصبا على مقدمة سفينته الضخمة، يتأمل الشواطئ الصينية، بينما يداعب خياله حلم السيطرة على الأراضي الصينية الواسعة والخيرات التي ستغرق بلاده بالحرير والشاي ونساء الشرق الحسناوات. حمّل مكارتني سفينته بكل عناصر الإبهار التكنولوجي التي وصلت لها بلاده، من الأسلحة الحديثة والآلات الميكانيكية المعقدة، في زمن كانت الصين فيه عزيز قوم اعتاد الريادة ولكنه تخلف عن ركب العالم الحديث وأصبحت إنجازاته القديمة مجرد أضحوكة في عالم الثورة الصناعية.
وصل مكارتني ورفاقه إلى ميناء تيانجين بشمال الصين، وتعثرت السفينة الضخمة ولم تستطع أن ترسو قرب الشاطئ، فجاءت القوارب الصغيرة لنقل هدايا الملك للإمبراطور تشيان لونغ. أصرّ مكارتني على أنها "هدايا"، ولكن نائب الإمبراطور وموظفي البلاط ومن معه نظروا لبعضهم في تعجب كأنهم لا يفهمون عما يتحدث ذلك "البربري"، فالصين لا تستقبل "هدايا" إنما من يأتي إلى هنا يجيء ليقدم الجزية لابن السماء وحاكم المملكة الوسطى. وكان ذلك أول صدام حضاري، بين الدولة الشابة -إنكلترا- التي تعبث بالعالم مثل مراهق، وإمبراطورية السماء الراسخة هنا منذ 4000 سنة.
قضى مكارتني وبعثته أيامهم في بيوت مخصصة للأجانب، ومُنعوا من الخروج، حتى أذن لهم الإمبراطور أخيرا بالتحرك، فمكان اللقاء ليس بكين إنما مدينة "تشانغده" ذات الغابات الكثيفة والجو المعتدل، بعيدا عن مناخ بكين شديد الحرارة صيفا وشديد البرودة شتاء. استمتعت البعثة بالموكب الإمبراطوري المهيب، ومشاهدة سور الصين العظيم عن قرب لأول مرة، أبهرتهم الحضارة الصينية الضاربة في القدم، وأجبرتهم على خفض نعرتهم الاستعمارية ونظرتهم الاستعلائية.
في تشانغده، أُقيمت الاحتفالات وأُعدت الولائم، وجاء قادة المناطق الصينية البعيدة للمشاركة في الاحتفال الصاخب، ورؤية البعثة الأجنبية تقدم فروض الولاء. دخل مدير البلاط على مكارتني في غرفته قبيل شرف مقابلة الإمبراطور، وقال له من خلال مترجمه الذي جاء معه، وهو صيني يعيش في أوروبا يعمل بالتبشير للمسيحية. قال بلهجة آمرة، عندما يأذن لك الإمبراطور المعظم بمقابلته، يجب أن تتبع التقاليد الملكية وإلا أصبحت أضحوكة وقد لا تعود سالما لبلادك. وأخذ يلقي على مسامعه التعليمات وطريقة السجود أمام الإمبراطور وكيفية الانصراف دون التفاف الجسد... إلخ من التقاليد الإمبراطورية الصينية.
كاد مكارتني أن يسب ويلعن، ويجذب الرجل من ياقة قميصه، ويصيح فيه: أتراني عبدا؟ أنا مبعوث جورج الثالث ملك إنكلترا المعظم، والذي يمكنه سحق بلادكم كلها بسورها العظيم في ثوان، بفضل أسلحتنا المتطورة، وجنودنا المدربين، من هو إمبراطورك هذا بحق يسوع حتى أسجد له!!!
ولكنه قطعا لم يجرؤ على التفوه بها، وإلا طارت رقبته فورا. أطرق قليلا، ثم زفر وقال حسنا سأسجد للإمبراطور ولكن بشرط. أن يسجد كل مَن في القاعة أمام صورة الملك جورج الثالث. نظر الصينيون لبعضهم وضحكوا بصوت عال، واعتقدوا أن مكارتني حتما قد فقد عقله. فالأجانب يأتون إلى الصين لتقديم الجزية، يسجدون ويأخذون العطايا ثم يرحلون. فمن ملك إنكلترا هذا حتى يركع له الصينيون!
بعد شد وجذب واجتماعات ومناقشات لمحاولة تقليص الفجوة الثقافية الواسعة بين البلدين، وافق الصينيون على أن يركع مكارتني ومن معه أمام الإمبراطور على ساق واحدة، وألا يسموا ما جلبوه معهم "هدايا" بل هي جزية يدفعونها مقابل السماح لهم بالتجارة في منطقة جوانغدونج بجنوب الصين. وافق مكارتني مكرهاً على الاقتراحات التي جاءت بصيغة أوامر.
خلال الحفل، لم يتكلم الإمبراطور كلمة واحدة، ولم يرد على رسالة الملك في الحال، من المعتقد أنه استخف بقائد البعثة، واكتفى بإشارات ترحيب لا أكثر. وبعد أن عاد الجميع إلى العاصمة، تسلم مكارتني الرد الإمبراطوري المقتضب، الذي يرفض فيه جميع طلبات الملك جورج الثالث.
كما يقولون، ما حدث بعد ذلك أصبح تاريخاً. دخلت الصين في ما يعرف الآن بعصر المهانة، وانهار الاقتصاد والجيش ووقعت البلاد فريسة للتخلف والاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي، والذي استمر حتى تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949.