عن أنس النجار الذي اعتزل التغطية الصحافية.. ماذا عنّا؟
هلا نهاد نصرالدين
حالة من الضياع والإحباط والثقل نشعر بها معظمنا منذ بداية الحرب على غزّة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. حالة الإحباط وانعدام الفائدة تتضخّم مع كلّ صحافيّ أو صحافية يُقتل أو يُصاب، فنتساءل: ما جدوى دورنا كصحافيين؟ ها نحن اليوم، وها هم صحافيو غزّة ينقلون صورة الإبادة والدمار والمجازر إلى كلّ العالم، ولكن ما الفائدة؟ فالحرب دخلت شهرها الرابع، ولم نستطع حتى اليوم الوصول إلى وقف لإطلاق النار.
أكثر من 100 صحافية وصحافي قتلوا في الحرب الإسرائيلية على غزّة بمعدل نحو صحافي (ة) يُقتل في اليوم الواحد. لكن بالإضافة إلى قتل الصحافيين، هناك ظاهرة، هي أيضًا مؤذية ومؤسفة لمستقبل الصحافة، وهي اعتزال عددٍ من الصحافيين، سواء في غزّة أو خارجها، لأنهم فقدوا الجدوى من هذه المهنة.
جاء وقع إعلان الصحافي الغزاوي، أنس النجار، اعتزاله من مهنة الصحافة التي لطالما حلم بها، ثقيلًا عليّ.
"هنا تنتهي تغطيتي الصحافية، فالبحث عن الأمان مع العائلة لهو خير ألف مرة من البحث عن خبر ينقل لعالم لا يعرف معنى الإحساس ولا الإنسانية. رحم الله الزملاء الصحافيين، وأعلن إيقاف عملي الصحافي في هذه الحرب الهوجاء".
"والله لم يكن سهلاً اتخاذ قرار خلع هذه السترة، فهي الحلم الذي سعيت للوصول له منذ نعومة أظافري، لكنّ صمت العالم أتعبنا".
بهذه العبارات والكلمات، ترك أنس المهنة. وأنا منذ ذلك الحين لا يسعني التفكير إلا بقراره النابع من الإحباط، الإحباط من العالم غير الإنساني المجحف والنفاق العالمي وازدواجية المعايير، لكن أيضاً الإحباط من مهنة لطالما آمنّا بدورها وتأثيرها وقدرتها على إحداث تغيير حقيقي، أو على الأقل هذا ما كنّا نؤمن به لدى دخولنا هذ المعترك، لنكتشف بعدها، ومع تقدّم العمر والخبرة، وعمق غرقنا فيها، أنّ هذه المهنة والمنصّات التي تمتهنها، هي في حالات كثيرة، أداة بأيدي الحكام أو الأنظمة، حتى في أكثر الدول ديمقراطيةً! طورًا تقوم نصرةً ودفاعًا عن حقوق الإنسان، وتارةً تعتبر مئات الآلاف من الضحايا collateral damage (أضرار جانبية) أو proportionate response (استجابة متناسبة لحجم الضرر) أو بكلّ وقاحة "دفاعاً عن النفس"!
إذا كانت الديمقراطية تموت في العتمة، فالإنسانية، وهي أساس الديمقراطية، قد ماتت في وضح النهار في غزة من دون أن يتسنى لنا حتى أن نقيم عليها "مأتمًا وعويلاً"
بغضّ النظر عن العبارات التي تستخدم، كلّها تخلص إلى أنّ المعايير الانسانية التي تنطبق على فئة من الناس، كالأوكرانيين مثلاً، لا تنطبق على آخرين كالفلسطينيين في هذه الحالة، بالنسبة إلى عدد من هذه المؤسسات الصحافية الأجنبية.
أذكر هنا شعار واشنطن بوست "Democracy Dies in Darkness" أي "الديمقراطية تموت في العتمة". لكن ماذا عن أكثر من 24 ألف شخص، حياة، قصة... ممن قتلوا في الضوء أمام أعيننا ونظرنا؟
إذا كانت الديمقراطية تموت في العتمة، فالإنسانية، وهي أساس الديمقراطية، قد ماتت في وضح النهار في غزّة من دون أن يتسنّى لنا حتى أن نقيم عليها "مأتماً وعويلاً". جرائم الحرب التي ترتكب في غزّة لا تحصل في العتمة، بل تحصل على مرأى الجميع، موثّقة بالفيديو والصور، ومنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي كافة. هنا لا أخصّ واشنطن بوست، فقد تكون أفضل بكثير من شقيقاتها في الإعلام الغربي.
الخلاصة أنّ أنس على حق، فهذا "العالم لا يعرف معنى الإحساس، ولا الإنسانية" بالفعل. لطالما أُحبطنا كصحافيين في العالم العربي من غياب التأثير والمحاسبة، لكنّه اليوم أكثر من أي وقت مضى، فنحن بالفعل نشهد عملية إبادة في البيت المجاور، وكأنّ أحداً لا يسمع ولا يرى! فهل نتبع أنس ونعتزل هذه المهنة البائسة المرهقة؟ وهل تستحق بالفعل كلّ هذا التعب والمجهود؟
لطالما أُحبطنا كصحافيين في العالم العربي من غياب التأثير والمحاسبة، لكنّه اليوم أكثر من أي وقت مضى
قد نكون نحن كصحافيين شباب خارج قطاع غزّة في مكان آمن اليوم، أبعد من أن نتذمّر على مآسي الحروب، مقارنةً بمن يعيش الحرب فعلاً أو مع جيل من الصحافيات والصحافيين الذين عاصروا الكثير من الحروب في منطقتنا المتقلبة، لكن هذا لا ينكر أنّ المهنة بالفعل أرهقتنا، أنهكتنا، وسرقت منّا الحياة!
ولكن أتخيّل هذه الحرب دون صحافة، دون نقل الصورة الحقيقية من الداخل. أتخيّل عالماً من دوننا، من دون أصواتنا وكاميراتنا وكلماتنا وأفكارنا، ثم تصبح الصورة أحلك بكثير، وأفهم لماذا يرفض وائل الدحدوح أن يأخذ قسطاً من الراحة.
كأنّ وائل الدحدوح يعزّي نفسه بهذه المهنة، هو الذي دفع أثماناً باهظة في سبيلها ولنقل الحقيقة، ومن الواضح أنّه ما زال متمسّكاً بها حتى آخر نفس. هل لأنّها تشعره بأنّه على قيد الحياة، أم لأنّها تقرّبه من الموت أكثر فأكثر كلّ يوم بعد أن سرق الاحتلال أفراد عائلته؟ تساؤل لا يمكن أن يجيب عنه أحد إلّا وائل الدحدوح نفسه!
أعود وأعزّي نفسي بأنّنا على الأقل، وفي معظم منصّاتنا العربية، on the right side of history، أي على الجانب المحق من التاريخ، فنأسف بشأن الصحافيين العرب في المنصّات الأجنبية الذين، إمّا اضطروا مكرهين إلى الخضوع أو التزام الصمت، وإما اضطروا إلى المخاطرة بقوت عيشهم وتقديم استقالاتهم.
أحيّي أنس على قراره، وأشكره على الجهد الذي بذله وصحافيي غزّة لتسليط الضوء على معاناتهم، فالجهد الصحافي سيؤتي ثماره، وإن بعد حين، ولكنني صرت اليوم مثله، أؤمن بأنّ "البحث عن الأمان مع العائلة هو خير ألف مرة من البحث عن خبر".
لكلّ منّا الحق في اختيار طريقه، وكلّ منّا على حق في وجهة نظره. أحببنا هذه المهنة حقّاً، لكن هل تستحق منّا ومن صحافيي غزّة على وجه التحديد، كلّ هذه التضحيات؟
لا جواب عندي حتى اللحظة!