عن أزمة الصحراء
يقول أهلنا في الصحراء في أمثالهم الشعبية، كناية عن الأماني الكاذبة المخادعة التي لا يمكن أن تتحقق، "الي مناك ما هناك"، ويقولون عن الأمر الذي لا ترجى منه فائدة ويمضي الزمن دون تحقيقه ولا الوصول إلى الهدف، إنه "أخسر من لبن الرحيل"، أي لبن الراحلة الذي قد يفسده الطريق الطويل وطول المسافة.
اخترت أن أبدأ حديثي ومقالي هذا بتلك الأمثلة الشعبية التي نستخدمها في موريتانيا ويستخدمها إخوتنا في الصحراء، فلهجتنا واحدة، لنتحدث عن أزمة لا تنتهي ومشكلة لا يراد حلها منذ أكثر من أربعة عقود، وهي بمثابة القشة التي قصمت ظهر اتحاد المغرب العربي، أزمة الصحراء الغربية أو المغربية، والحديث قد طال عن المسألة، وأمرها قد زاد عن حده، وطفح الكيل وبلغ السيل الزبى وآن أوان الاعتراف بالمشكلة كبداية لحلها. وحتى لا تظل أزمة الصحراء ورقة يستخدمها كل حالم بلعب دور في تلك المنطقة، دعونا نتحدث عن المشكلة ونعطي كل ذي حق حقه ولنبدأ بالحقائق التاريخية التي لا خلاف حولها.
ثم جاء بعدها ما يعرف لحد الآن في المغرب بالمسيرة الخضراء في 16 من أكتوبر من العام ذاته، تاريخ الزحف المغربي إلى الصحراء الغربية
والحقيقة التاريخية الأولى تحيلنا إلى نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1975، تاريخ الجلاء الإسباني عن ذلك الإقليم، وتاريخ أيضا اتفاقية مدريد الشهيرة التي تم بموجبها توزيع إقليم الصحراء بين موريتانيا والمغرب، وأكرر موريتانيا والمغرب. وقد قبل البلدان بذلك التقسيم، ثم جاء بعدها ما يعرف لحد الآن في المغرب بالمسيرة الخضراء في 16 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، تاريخ الزحف المغربي إلى الصحراء الغربية. بعدها بعام أعلن عما يسمى بجبهة تحرير الصحراء "البوليساريو" عام 1976 بدعم من النظامين الجزائري والليبي، وشاءت الأقدار أن تندلع ما سميت يومها بحرب الصحراء والتي تكبدت فيها موريتانيا خسائر كبيرة، ولم يسلم أي بلد من خسائر تلك الحرب.
بعدها اعتزلت موريتانيا قضية الصحراء والتزمت الحياد ولم تعد تطالب بحقها في الإقليم المتنازع عليه، إلا أن لهيب الحرب ظل مشتعلاً بين المغرب صاحبة الحق في الأرض وبين "البوليساريو" المدعوم من الجزائر ونظام القذافي الذي نأى بنفسه هو الآخر عن دعم المسلحين عام 1984. ثم انشغلت الجزائر الشقيقة والعزيزة على قلوبنا كموريتانيين بحربها الأهلية وعشريّتها السوداء المحزنة. وهو الأمر الذي مكن الأمم المتحدة من توقيع اتفاق تاريخي عام 1991، تم بموجبه وقف إطلاق النار بين المغرب و"البوليساريو" وإعلان منطقة الكركرات، وهي معبر يربط موريتانيا بالمغرب، منطقة عازلة، وتوجد فيها قوات أممية للسلام تفصل بين الطرفين.
هذا من التاريخ، والتاريخ يوحي بأن الأمر هو بين موريتانيا والمغرب. وموريتانيا تنازلت أو نأت بنفسها، بالتالي فالإقليم مغربي الآن ولا خير في وجود دولة مستقلة صغيرة الحجم قليلة السكان هناك، كحلم دولة كردية في الشرق الأوسط، ألا يقولون في أمثلتهم إن القلة ذلة.
ثانياً، الحقائق السياسية والصراع السياسي والأطراف الدولية التي تصب الزيت على النار في الإقليم، ونبدأ بالنظام المغربي صاحب الحق الذي لا يمانع في منح الإقليم سيادة ذاتية على أن يظل تحت حكم المملكة كما هو الحال في بريطانيا. فبريطانيا مملكة ولديها دول أو أقاليم تحت سلطة المملكة، مثل اسكتلندا وإنكلترا وويلز، وهو أمر مشروع. والمغرب يرى أن وجود دولة صغيرة مستقلة عن سلطته يهدد أمنه القومي، وقد يشكل تهديداً له لو قامت تلك الدولة الصحراوية بقبائلها الممتدة من الصحراء مرورا بتندوف ووصولاً إلى صحراء ليبيا وهو أمر خطير جداً. وكذلك ملف الفصائل المسلحة في الشمال الأفريقي التي قد تتحالف مع دولة "البوليساريو" لو قامت لها قائمة.
ثاني الأطراف الجزائر، الداعمة لـ"البوليساريو" عسكرياً وسياسياً، والتي تستقبل على أرضها أكثر من 100 ألف لاجئ صحراوي، وهو ما يزعج النظام المغربي من شقيقه الجزائري. فالجزائر ترى أن الاستفتاء على تقرير المصير هو أمر مشروع؛ وتدعو لتمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير من خلال استفتاء ترعاه الأمم المتحدة؛ وهذا حل قد ينهي المسألة، ولكن في الوقت نفسه يفتح الباب لكل من يحلم بدولة صغيرة في تلك المنطقة، وفيه أيضاً انتقاص من حق المغرب في أراضيه التاريخية.
ثالثاً، موريتانيا، صاحبة الحق الثاني في الإقليم، والتي تنازلت ونأت بنفسها وتلتزم أنظمتها الحياد نظاماً بعد نظام، وهو ما يزيد المسألة تعقيداً. فالحقيقة أن وجود دولة صحراوية يشكل خطرا على موريتانيا، فمعبر الكركرات هو شريان الحياة التجارية بين موريتانيا والمغرب، ناهيك عن وجود دولة بحجم سكان مماثل لموريتانيا، وهذا تهديد وجودي.
رابعاً، الأطراف الدولية وخاصة فرنسا والولايات المتحدة، اللاعبان الأساسيان في المنطقة حاضراً وماضياً، وهما مع كل الأطراف ومع جميع الحلول، ففي التوقيت نفسه الذي كان فيه وزير الداخلية الفرنسي يزور الجزائر، كان وزير الخارجية الفرنسي يزور الرباط، بالتزامن مع أزمة إغلاق معبر الكركرات التي اندلعت في 16 أكتوبر الماضي. وإن كان لودريان قد أكد من الرباط على ضرورة الحل السلمي لأزمة إغلاق المعبر، إلا أنه بدا داعما للمغرب في خطواته تجاه مسلحي "البوليساريو"، فلم تهاجم باريس حركة المغرب المسلحة الأخيرة، ولا واشنطن المنشغلة بانتخاب رئيسها أدانت ذلك.
فالولايات المتحدة الأميركية التي تنتهج سياسة اللعب مع جميع الأطراف، ظلت تلعب دور المراقب وتعشم الجميع بإيجاد حل للمسألة يشمل مسلحي "البوليساريو" الحالمين بدولتهم.
فليس من مصلحة الأطراف الدولية الساعية للنفوذ في تلك المنطقة انتهاء أزمة الصحراء المغربية أو الغربية، فهي ورقة رابحة لابتزاز المغرب والجزائر، وهي الجدار العازل أمام اتحاد المغرب العربي الذي ولد مشلولاً بسبب أزمة الصحراء تلك التي لا تنتهي.
إن الوقت قد حان لحل الأزمة وإن كان الاعتراف بسلطة المغرب على الإقليم، حسب رأي هو أقرب للحقيقة والتاريخ وأصوب وأصلح لشعب الصحراء، وبالتالي يكون في حكم ذاتي تحت سلطة المغرب. لقد تعبنا من الدول الصغيرة التي لا يمكن أن تسود ولا تصبح ذات سيادة، هي دول "بين وبين"، لا نظام فيها قادر على البناء ولا الحكم دون إذن الآخرين ولا قوة تحميه لو غضب منه الكبار في المنطقة. إن المرض قد طال وحان الوقت لإدخال المريض إلى غرفة الإنعاش وإجراء عملية له، عل جسد تلك المنطقة واتحاد المغرب العربي يشفى بشفائه.
أزمة الصحراء الصغيرة قد كبرت وأصحبت تشكل خطراً على منطقتها، والمطلوب حل عادل ومنصف يجنبها مرارة الحروب والصراعات. فلا اتحاد بدون الجزائر الكبيرة ولا بدون المغرب الكبير.