عندما تتلاعب هوليود بالحقائق
تعتبر الأفلام المبنية على أحداث حقيقية ذات أهمية خاصة للجمهور، فقد يعتقد شخص ما أنّ كلّ ما يظهر على الشاشة حقيقي حقاً، وقد يرتجف المشاهد من شدّة الحقائق والوقائع ويقنع نفسه بعدم صحة ما يشاهده، ويقول مثلاً "الأشباح والوحوش وكلّ شيء آخر غير موجود". نعم، غير موجود جسدياً، الوحوش لا تتجوّل بيننا، بل تعيش داخل الجميع، والخيال قادر على إكمال ما ليس موجوداً وتجسيده في الحياة بشكل أو بآخر.
الأفلام التي تبدأ بعبارة "مبنية على قصة حقيقية" تُثير القلق في روحك، لأنّك تدرك في عقلك الباطن أنّ كلّ ما يحدث في الفيلم، يمكن أن يحدث لك أيضاً، هذا هو السبب في أنّ دماغنا يقاوم بشدّة ولا يصدّق، ومع ذلك، لمجرّد أنك لا تؤمن بالخوف، فهذا لا يعني أنه غير موجود.
العلاقة بين هوليوود وعبارة "مبني على قصة حقيقية" بعيدة كلّ البعد عن الصدق في غالب الأعمال، على سبيل المثال فيلم "مجزرة منشار تكساس"، يحتوي على مثل هذه الإشارة في بداية تسويقه على الرغم من أنّه لم تكن هناك قصة حقيقية. لكن في بعض الأحيان، ولمجرّد أنّ المنتجين استلهموا فكرة مضحكة مشيرين إليها على أنّها حقيقية، هذا يجعل من أي فيلم أكثر رعباً على عدّة مستويات.
لنأخذ على سبيل المثال أحد الأفلام الأكثر شيوعاً "رعب إمثيفيل" المبني على قصة حقيقية حسب ادّعاء صُناعه. القصة مبتذلة قدر الإمكان، تشتري عائلة شابة منزلاً رخيصاً بشكل مثير للريبة، وتكتشف أنّه كان موقعاً لجريمة قتل غامضة، وأنّه مسكون. هنا تُطرح أسئلة كبيرة حول جميع الحقائق الأخرى الموصوفة في المذكرات التي شكلت أساس الفيلم.
الخيال قادر على إكمال ما ليس موجوداً وتجسيده في الحياة بشكل أو بآخر
ارتكب كتاب "رعب إمثيفيل" أخطاء فادحة واختراعات أو ببساطة مبالغات سخيفة. مثلا "الغرفة الحمراء"، التي يُزعم أنّها مخفية خلف باب سري تحت مرأب غامض، تبيّن لاحقا أنه مخزن عادي ليس به باب سرّي. صحيح أنّ الفيلم لم يتأذ بهذه الادّعاءات، ونتيجة لذلك، ظهر بالفعل أكثر من 20 فيلماً يحمل كلمة "إمثيفيل" في عناوينها، ومن غير المرجح أن يجف هذا التدفق في المستقبل، حتى أنّ صنّاع سلسلة "Conjuring" داسوا على هذا اللُّغم، بحيث حامت حول السلسلة أسئلة كبيرة حول صدق قصصهم المزعومة على أنها مقتبسة من أحداث حقيقية.
لكننا اليوم لن نتحدث عن صُنّاع هذه الأفلام، بل عن طريقة تعاملهم مع مفهوم الاقتباس من الحقيقة إن جاز التعبير.
فيلم فارغو
لعل أشهر الأمثلة هو أحد أفلام ألأخوين كوين أي فيلم "فارغو"، والذي يبدأ تحت عنوان "هذه قصة حقيقة حدثت في ولاية مينيسوتا عام 1987"، حيث سارع محبّو هذا الفيلم والمفتونون بنظرية المؤامرة للبحث عن إجابة لسؤال: كيف حدث كلّ شيء؟ لكنهم لم يعثروا على شيء. وبعد عشرين عاما على عرض الفيلم، اعترف المؤلفون بأنهم اخترعوا قصة القاتل، ولم يأخذوا سوى بضعة تفاصيل بسيطة من الحياة الواقعية، وهذا بالضبط ما أشار إليه الكاتب والناقد السينمائي روبرت بريان تايلور لمجلة Collider.
فيلم "عقل جميل"
إنّ تصوير فيلم مبني على أحداث حقيقية عن عبقرية الرياضيات هو اختبار آخر، عادة ما يكون هؤلاء الأشخاص، إمّا مملين أو منغلقين للغاية، أو غريبي الأطوار لدرجة أنهم لا يؤمنون بأفعالهم، هناك الكثير من الحقيقة في فيلم "عقل جميل" حول حياة جون ناش، ولكن كان على كُتّاب الفيلم والمخرج، رون هوارد، أن يكتبا المزيد لإضفاء الحيوية على القصة. لم يعمل ناش في وزارة الدفاع، ولم يكن لديه مختبر في الجامعة، ولم يلق كلمة في حفل توزيع جوائز نوبل... وهناك الكثير من الحقائق التي لم يدوّنها صُنّاع الفيلم حسب ما صرّح الكاتب المتخصّص في المجال السينمائي، شوريا ثابا.
فيلم "21"
تعرّض الفيلم المليء بالإثارة، والذي يدور حول علماء الرياضيات الشباب الذين قرّروا "اختراق" كازينو باستخدام العلوم الرياضية ونظريات الألعاب لانتقادات شديدة حتى قبل إصدار الفيلم، ولم يعجب المشاهدون بحقيقة أنّ المؤلفين قرّروا تغيير الشخصيات (حسب مجلة Hollywood vs History) الذين كانوا بأكملهم آسيويين، ولم تكن هناك علاقة رومانسية في الحقيقة داخل المجموعة، ولم يكن هناك أي ضرب لأحد الأبطال في مرحاض الكازينو.
إغراء المبدعين بالتضحية بالحقائق الجافة والتفاصيل التي تبدو غير مهمة لصالح الخيال والدراما أمر عظيم للغاية، لكن الحقيقة هي أنه لصالح شباك التذاكر لا أكثر
فيلم "البعد الآخر"
حصلت الممثلة، ساندرا بولوك، على جائزة الأوسكار لدورها في الدراما المؤثرة "الجانب الأعمى"، وأشاد النقاد بقدرتها على إظهار مشاعر الأمومة العميقة على الشاشة، لكن الفيلم مبني على أحداث حقيقية أليس كذلك؟ دعوني أخبركم أنّ المجلة العالمية VOX، صرّحت أنّ الشخصية الرئيسية مايكل أوهير أصيبت بشدّة بافتراضات المؤلفين أنّ والدته بالتبني هي من علمته لعب كرة القدم الأميركية وحببتها إليه، وأنّ الحقيقة هي أنّ العائلة تبنته كرياضي ناجح بالفعل وليس العكس.
فيلم "النوع الرابع"
يحكي فيلم الإثارة والغموض "النوع الرابع" قصة مخيفة للغاية عن حالات اختفاء العديد من الأشخاص في ألاسكا، والتي ربطها المؤلفون بأدلة على رؤية الأجسام الطائرة المجهولة وغيرها من مظاهر الخوارق الطبيعية. كان تأثير الفيلم المُستند إلى قصة حقيقية (حسب صُنّاعه) كبيرا جدا لدرجة أنّ عمدة ألاسكا حسب المجلة الشهيرة "People" غمرته مكالمات وزيارات المراسلين للتأكد من صحة الادعاءات التي روّج لها الفيلم. لكن الحقيقة بيّنت أنّ كلّ شيء عادي تماما، فقد صرّحت الشرطة بأنّ جميع الأشخاص المفقودين المشار إليهم في الفيلم، إمّا تمّ اختراعهم أو أنّهم ضحايا الكحول، مشيرين أنّ الحقيقة هي اختفاء الأشخاص بسبب انجراف الثلوج ولا علاقة للأجسام الطائرة والظواهر الخارقة للطبيعة بالأمر.
فيلم "القبطان فيليبس"
الدراما البطولية التي تدور حول مواجهة القراصنة الصوماليين ليست ضمن المجموعة الذهبية لأعمال توم هانكس، لكن وقت عرضه لأوّل مرّة على الشاشات الكبيرة، أثار جدلاً حاداً في الصحافة والإنترنت. كان الموضوع الرئيسي للصراع هو تصوير الشخصية المعنون تحتها الفيلم كبطل حقيقي، لكن بعد عشر سنوات من عرضه الأول خرج الكاتب، دان زينسكي، ليخبر الجمهور أنّه بحلول الوقت الذي بدأ فيه التصوير، كان من المعروف بالفعل أنّ الكابتن فيليبس انتهك التعليمات بشكل صارخ، وهو السبب الرئيسي الذي قاد السفينة إلى القراصنة، لكن الفيلم له رأي آخر.
فيلم "نادي دالاس للمشترين"
تحكي لنا دراما هذا الفيلم عن المصير المأساوي لرون وودروف، وهو مواطن أميركي من تكساس مصاب بالإيدز، والذي كان عليه أن يجد بشكل مستقل طرقا لمقاومة المرض، حتى إن كان على حساب تجاوز القانون. قرّر صنّاع الفيلم تغيير أصله وحياته الماضية وشخصيته ووجهات نظره، وحسب الكاتب شوريا ثابا، لم يكن هناك طبيب وشريك مثلي يتعاطفان معه على الإطلاق، الأمر الذي جعل الفيلم بعيداً كلّ البعد عن الحقيقة في طبيعتها.
يضيف الكُتّاب بعض المؤامرات، ويغيّرون أسماء الشخصيات، بل ويخرجون بأشياء لم تحدث في الواقع
إذن، يضيف الكُتّاب بعض المؤامرات، ويغيّرون أسماء الشخصيات، بل ويخرجون بأشياء لم تحدث في الواقع، إذ أصبحت الشخصية الرئيسية فجأة سمراء، أو تمّ استبدال النهاية السعيدة بأخرى مأساوية، فهو أمر متوّقع لاسيما إن تعلّق الأمر بهوليوود.
في اللحظة التي يدّعي فيها الفيلم أنه مقتبس عن قصة حقيقية أو مستوحى منها، يبدأ الجدل الحتمي، لكن متطلبات سينما هوليوود تفرض أنّ أي عمل يتناول أي قصة، سوف يتم التلاعب بحقائقها وخطوطها الزمنية وشخصياتها وسردها القصصي بل هيكلها برمته، لكن القاعدة الأساسية البسيطة هي أنه يمكن تزييف الحقائق، يمكن تزييف الشخصيات، لكن الحقيقة ستظل كما هي.
الفيلم المبني على أحداث حقيقية هو دائمًا لعبة مع الواقع، مع الجمهور وإحساس المرء بالتناسب مع أحداثه ووقائعه، وإنّ إغراء المبدعين بالتضحية بالحقائق الجافة والتفاصيل التي تبدو غير مهمة لصالح الخيال والدراما أمر عظيم للغاية، لكن الحقيقة هي أنه لصالح شباك التذاكر لا أكثر.