عصر ما قبل التلفزيون

04 ديسمبر 2023
+ الخط -

بقي صديقي أبو سعيد، المقيم في مدينة إدلب، يومين متتاليين وهو يمشي في أسواق المدينة دون موبايل، والسبب، كما قال لي، أنّ تغطية الشبكة انقطعت، ثم انقطع النت، فلم يعد تلفونه يصلح لغير الاستخدام كـ "وزنة" في دكان السمان المرحوم أبو طجو! 

سألني أبو سعيد: هل تعرف كيف كان أبو طجو يستعمل الميزان؟

- أنا الذي أعرف. ففي بداية افتتاحه الدكانَ، اشترى أوزاناً حديدية من فئة 5 كيلوغرامات، و2 كيلو، و1 كيلو، ونصف كيلو، و200 غرام، و100 غرام، و50 غراماً. وكانت العادة الجارية بين أصحاب الدكاكين، أن الواحد منهم، إذا لزمته وزنة، يستعير واحدة من جاره، وقد حلف أبو طجو يميناً معظماً، أنّ جاره أبو عتمان كان يتقصد استعارة أوزانه، ثم يخفيها، وحينما يطالبه بها يحلف أغلظ الأيمان على أنها ليست عنده، فهو مثل ذلك الحميماتي النصاب أبو الجُجُم الذي كان يكمش طائر حَمَام عائداً لأحد أصدقائه، فإذا سأله صديقه عنه يُقسم على أنّ "عينه لم تقع عليه" وهو يضمر المعنى الحرفي للجملة، وهو أنّ عينه لم تسقط من مكانها وتقع على الطائر! 

- نعم، يا أبو مرداس، كلامك صحيح.. ومن كثرة ما كان أبو طجو يفقد من الأوزان، لجأ إلى حيلة قوية، وهي الاستعاضة عن الأوزان الحديدية بما يقابلها من مواد صلبة. فتراه يضع في الميزان قطعة حجر مكتوبا عليها بالقلم الأسود "الشنيار" عبارة 5 كيلوغرام، وقطعة حديد مصفحة كانت في يوم من الأيام سكة للفلاحة، وكتب عليها 2 كيلوغرام، ويزن 1 كيلو من نوى التمر، ويغلفها، ويكتب عليها 1 كيلو غرام، وهناك بطاريات صغيرة، كان يستخدمها بدلاً من وزنة 50 غراماً، ولو كان أبو طجو على قيد الحياة اليوم، لأعطيته موبايلي ليستخدمه في الوزن!   

- جميل. لكن، إلى أين تريد أن تصل من هذا الكلام يا أبو سعيد؟ 

- سأصل إلى أنّ هناك أفكاراً، وأسئلة، لا تخطر في بال الناس إلا عندما يفقدونها، مثل الرجل المعافى الذي لا ينتبه إلى أن صحته بخير حتى يقع في المرض. يعني؛ مثلاً: ماذا يحدث لو أنك أضعتَ تلفونك المحمول؟ هل فكرتَ فيها؟ أو: كيف تتصرف إذا فقدتَ كلَّ بياناتك المسجلة على التلفون، أو على اللابتوب، أو على الآيباد؟ أو: ماذا لو توقف القمر الصناعي عن تأمين التغطية لتلفونك المحمول، أو أنّ مشغلي شبكة الإنترنت قطعوه، أو، كما نقول بلغة الشارع (سكروا عليك الحنفية)؟

قلت: أسئلتك هذه، يا أبو سعيد، بالغة الخطورة والأهمية. لكنني أحب أن أطرحها بطريقة معاكسة، كأن أسألك، وأسأل نفسي، وأسأل الناس الذين يعيشون معنا في سنة 2023: ماذا لو عاد الزمان بنا إلى الوراء، وفُرض علينا أن نعيش في عصر ما قبل التلفزيون؟

- تريد الصراحة يا أبو مرداس؟ هذا أمر مخيف، فأنا، حينما قُطعت عن تلفوني التغطية، وانقطعت شبكة النت، أمضيتُ يومين أتصرف مثل مجنون تم الإفراج عنه من العصفورية، وحارَ في أمره كيف يتعامل مع العقلاء، أو مثل عاقل وضعوه في العصفورية فجأة، وصار المجانين يقتربون منه على هيئة حلقة تصغر وتصغر، وعيونهم تقدح بالشرر والجنون! وحينما عادت الشبكة، والتغطية، شعرت بسعادة أكبر من سعادة الفلاح الذي يُضيّع حماره ثم يعثر عليه. وبخصوص عصر ما قبل التلفزيون، أرجو أن تتحدث أنت عنه، لأنك أكبر مني سناً، وأظنك عشتَ جانباً منه.

- نعم. يا سيدي؛ أنا أرى أنّ مصطلح "عصر ما قبل التلفزيون" غير دقيق، فظهور التلفزيون، في سورية، ابتداءً من يوم 23 تموز / يوليو 1960، لم يكن شاملاً، ولا مؤثراً، ولم يُشَكِّلْ، بالتالي، قفزة نوعية، لأنه بدأ على هيئة تجربة غير ناجحة، فأولاً، لم يكن بإمكان غير الأغنياء شراء تلفزيون مع ملحقاته، فقد كان غالي الثمن.. وثانياً، كانت فترة البث لا تتجاوز خمس ساعات، تبدأ بصورة ثابتة مع صوت مطرب يغني، فكأنك تستمع إلى راديو، أو جهاز تسجيل، وبعد ذلك يبث التلفزيون تلاوة بعض الآيات القرآنية، دون أن نرى الشيخ القارئ وهو يقرأ، ثم تأتيك برامج ضعيفة الإعداد، وغير جذابة من الناحية البصرية. وكان شعار الفترة التلفزيونية هو "التنغيص" فما إن يجلس الناس ليتفرجوا حتى ينقطع الإرسال، وتنزل عبارة "نعتذر عن هذا العطل الفني".. وأما موضوع تقوية الإرسال، فكان شيئاً يستحق الفرجة، إذ ينقسم أهل الدار، في فترة البث، إلى فريقين، أحدهما يصعد على السطح، والآخر يبقى في الأسفل، وفريق ثالث يقف في مكان متوسط بينهما، لينقل إلى الذين فوق حالةَ الصورة تحت، وكان أهل بلدتنا يسمعون في ظلام الليل صياح الرجال الذين يعملون على ضبط الإرسال: "دَوّرْ، حرّك شمال، حرّك يمين، أيوه، ثَبِّت". 

ولذلك سرعان ما انفض الناس عن التلفزيون، وعادوا يمارسون الحياة، ويصنعون التسالي كما في السابق، وقد استغنى بعض الذين اشتروا جهاز تلفزيون عن التلفزيون، وبعضهم فصل الجهاز عن المقوي، وأعاده إلى صندوقه، وصار يردد المثل "كسرنا الدف وبطلنا الرقص".. بينما التزم أصحابُ المقاهي بشراء تلفزيون، لأنه يجذب الزبائن، وبالأخص حينما يبث التلفزيون حلقة من حلقات غوار الطوشة وحسني البوراظان، أو حينما تبث مباراة لمحمد علي كلاي، ويراه الناس وهو يصرخ بخصمه: What is my name؟.. 

وإذا توخينا الدقة، يا أبو سعيد، نقول إن عصر التلفزيون قد بدأ فعلاً منذ أوائل السبعينيات، وأصبح شراء جهاز مع ملحقاته أقل تكلفة، والإرسال أكثر انتظاماً، وصار التلفزيون السوري ينتج أعمالاً درامية مثل "أسعد الوراق"، و"زقاق المايلة"، وأصبحت تُعرض مسلسلات مصرية، أحبها الناس، وبالأخص الأشخاص الذين كانوا يسافرون إلى حلب، قبل هذا التاريخ، للفرجة على السينما، وفي ذلك الحين كانوا يميلون إلى الأفلام العربية، لأنّ الأفلام الأجنبية تشغل المشاهد بقراءة الترجمة، وأحياناً تكون الترجمة سريعة، فلا يفهم المرء الكثير من أحداث الفيلم. 

(للحديث صلة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...