عدنا.. وتركناهم وحدهم هناك

25 فبراير 2023
+ الخط -

عدنا إلى حياتنا وتركناهم هناك، تركناهم وحدهم واقفين على حطام ذكرياتهم وركام سنوات مضت.

الدعم والمواساة "الفيسبوكية" بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً، والصور والمؤازرات "الإنستغرامية" بدورها بدأت تقلّ شيئاً فشيئاً.. لا التعليقات ولا اللايكات أخرجتهم من دوامتهم، ولا الصور المسروقة من الضحايا أعادت الحياة لأهاليهم المكلومين.

عاد المؤثرون ومستعملو مواقع التواصل الاجتماعي إلى حياتهم الطبيعية، بعضهم يلتقط الصور هنا وهناك، والبعض الآخر ربما بدأ في دعم ضحايا فاجعة جديدة، فما أكثر النوائب في هذا العالم الممتد على أطرافه الشاسعة. 

يوم الاثنين السادس من فبراير/ شباط 2023 هو تاريخ لن ينساه السوريون والأتراك أبد الحياة، لأنه، حتماً، أكبر من النسيان، وأكبر مما قيل أو قد يقال، حيث إنّ ما يقارب خمسين ألف قتيل أتت عليهم حوالى دقيقتين من الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وسورية دون أن يمهلهم لتوديع الحياة. بعضهم حظي برحمة الموت في هنيهة، والبعض الآخر امتدت معاناته أياماً تحت الأنقاض، بينما مات المنكوبون المفجوعون المكلومون في سورية وهم ينتظرون المساعدات التي لم تفلح أنَّاتهم في تحريرها من العقوبات.

وفي مقابل ذلك، لا يعلم الناجون أمِن حظهم نجوا أم لتعاستهم بَقوا أحياء لِيُجابِهوا ما بعد الكارثة، فمنهم من لا يزال يقف على أطلال بيته في كهرمان مرعش أو في هاتاي أو أضنة أو مدن أخرى لجمع الذكريات المتناثرة المبعثرة، وبعض الحاجيات والأشياء الشاهدة على الفاجعة.

وفي سورية، حيث انعدم الأفق وتكالبت قساوة الحياة والأقدار والطبيعة، فلم يعد للأهالي هناك مُتسع لما هو قادم، كتب أحدهم أنه "تمنى لو مات رفقة والديه وإخوته في الزلزال"، وقال آخر إنه "لم يعد أمامه من مستقبل".. بينما اكتفى البعض بالصمت وتفقد ذكرياتهم كلّ يوم، يطلون على ما تبقى منها من ركام، ويقفون برهة عند ذاك الحطام الذي تركه الزلزال في موقعه كما في أرواحهم... ثم يحملون أنفسهم من جديد إلى الخيام التي احتضنت جميع أصناف معاناتهم من نزوح وتشريد وتهجير.

لم نكن معهم وهم يذرفون الدموع بعدما فقدوا كلّ ذرة أمل في أن يعثروا على أب أو أم أو قريب أو حبيب تحت الأنقاض

أما نحن.. المتفرقون هنا وهناك في مختلف بقاع العالم، فقد عدنا وانشغلنا والتهينا. صحيح أننا كنّا معهم خلال الأيام الماضية، لكن أغلبنا لن يكون معهم وهم يستشعرون تغيّر حياتهم يوماً بعد آخر، لن نكون مع طفل بحث عن دميته المفضلة ولم يجدها، ولا مع فتاة لم تعثر على مشطها المعتاد الذي تسرح به شعرها، ولا مع رضيع يبكي شوقاً لحضن أمه التي لا يعلم كيف اختفت هكذا فجأة.

لن نكون مع تلك التي فقدت زوجها، ولا ذاك الذي خارت قواه وبقي دون سند في الحياة، لن نكون مع ثكالى فُجِعْنَ في أبنائهن، ولا مع أيتام ستؤويهم دور الرعاية.. ولا مع أولئك الذين سيلتحفون البرد وسماء سورية إلى أن يأذن لهم النظام بحياة أفضل.

لا شك أنهم بكوا بعد وقف جهود البحث عن ناجين في معظم المناطق المتضرّرة من الزلزال، لم نكن معهم وهم يذرفون الدموع بعدما فقدوا كلّ ذرة أمل في أن يعثروا على أب أو أم أو قريب أو حبيب تحت الأنقاض.

لن نكون معهم عندما تأتي الجرافات لجمع ما تبقى من ذكرياتهم في المناطق التي ضربها الزلزال، كما لن نكون هناك عندما تُشَيَّد مَبَانٍ جديدة فوق ما مضى من أيامهم وسنينهم الضائعة، هم وحدهم من سيعيشون ذلك، فلا هواتفنا ولا ما وصلت إليه البشرية من تطوّر تكنولوجي قادرة على تعويض لحظة عناق تحمل شتّى الأحاسيس و"طبطبات" الدعم والمواساة.

سكينة نايت الرايس
سكينة نايت الرايس
صحفية مغربية، مهتمة بقضايا المرأة والهجرة وحقوق الإنسان. حاصلة على الماجستير في الصحافة والإعلام، وراكمت تجارب مهنية متنوعة بين الراديو والتلفزيون والصحافة الإلكترونية، عبر منابر إعلامية تنتمي للقطاعين الحكومي وغير الحكومي في المغرب. تعرّف عن نفسها بمقولة جلال الدين الرومي : "لا تحزن.. فأي شيء تفقده ستجده في هيئة أخرى".