عاشق القروض

12 فبراير 2019
+ الخط -
ولا يزال الأب يسابق الزمن في الاقتراض من هنا وهناك؛ يستلف من طوب الأرض، لديه شغف كبير باستدانة المال السهل الذي لا تعب فيه ولا جهد حتى وإن كانت تكلفته عالية، لا يؤمن بمقولة أن "الدين هم بالليل وذل بالنهار"، ولذا يطلب اقتراض المال من كل من يقابله حتى وإن لم يكن هناك سابق معرفة به.

يغري الأب المقترض الشخص الدائن بسعر الفائدة العالي الذي سيحصده على أمواله خلال فترة وجيزة وكذا الضمان، ويضيف إلى الفائدة والتعهد بالسداد الحلف بأغلظ الأيمان بسداد ما اقترضه في الوقت المناسب.

لا يمل من اللف على جميع من حوله حتى يقترض أكبر كم من الأموال؛ عينه على أموال البنوك في الداخل وصناديق الاستثمار والمصارف العالمية في الخارج.

حاضره أهم مئات المرات من مستقبل أولاده وأحفاده، هدفه النهائي أن يكون رجل أعمال ثريا حتى ولو كان ذلك عن طريق الاقتراض المتواصل وبسعر فائدة مرهق لأسرته بات يلتهم الجزء الأكبر من دخلها.

حلمه أن يكون بحوزته ما يكفي من أموال لشراء كل ما يريد حتى وإن كانت السلعة التي يشتريها رفاهية لا تحتاجها أسرته أو لاستعمال مرة واحدة، أو حتى لمجرد الاحتفاظ بها.

همه الأول في الدنيا التظاهر، شاغله أن يكون في قلب الصورة ومحط الأنظار ويتحدث الناس عنه وعن ثرائه وإنجازاته وشطارته في الاقتراض، وكذا عن عبقريته في إقامة مشروعات كبيرة حتى وإن لم تفد الأسرة والمدينة التي يسكن بها.


يحب الأضواء كحبه لعينيه ونفسه، راتبه الشهري لا يغطي تكاليف بيته ومصروفات أولاده، والغريب أنه يقترض أضعاف راتبه وحوافزه السنوية.

أحيانا ما يقترض لشراء تذاكر سينما درجة أولى له ولأصدقائه؛ رغم أن أولاده لا يعرفون أين تقع أقرب دور سينما لهم، وشاغلهم الأكبر هو تناول وجبتي طعام بالكاد في اليوم وأحيانا وجبة واحدة، هو لا يدري كيف تدبر أسرته أحوالها المعيشية، وكيف تحصل الأم بعناء وشق الأنفس على رغيف خبز وكيلو أرز وورقة شاي، هو أب لا يعرف عذابات الأم في الحصول على ما تسد به معدة أطفالها الصغار الخاوية، لأن نظريته "الجياع والفقراء لا يستحقون الحياة"، الموت أفضل لهم، وهو صاحب نظرية لماذا ننجب أطفالا حتى نعذبهم.

أولاده يتساءلون في عجب واستغراب دائمين: كيف يشعر أبونا بالجوع وهو يتناول طعامه في أفخم الفنادق والمطاعم، وكيف يعرف العوز والحاجة والفقر وهو يقترض من كل من حوله ليكون بحوزته نقود كثيرة تكفي لسداد ثمن عشاء فاخر يتناوله هو وأصحابه في مطعم فاخر يقع على شاطئ البحر، أو في الطابق العلوي بالمول الذي تقع به دور السينما التي خرج منها للتو.

هو رب أسرة يريد مالاً كثيرا لشراء أحدث موديل من الملابس والسيارات والنظارات والموبايلات والأحذية والساعات، ولذا يستدين من هنا وهناك لتحقيق غايته، اقترض المال الكثير لبناء قصر منيف شيده في أقصى المدينة وبجواره بنى مسجدا كبيرا، ومن داخل المسجد الذي شيده بقروض كثيرة طلب من الخطيب أن يعظ في الناس بأهمية التبرع لسداد القروض المستحقة للشركة التي شيدت المسجد، ولم ينس الأب أن ينبه على خطيب المسجد بضرورة تخصيص واحدة من خطبه للحديث عن ضرورة العطف على الفقراء والمساكين وإرسال بواقي أطعمتهم للمحتاجين بدلا من الرمي بها في صناديق القمامة، وأن يدعو أصحاب الفنادق للتبرع ببواقي أطعمة الأفراح والليالي الملاح التي تقام بها يوميا.

أب حلمه ليس إسعاد أولاده ورسم الفرحة على وجوههم أو شراء ملابس تستر عورتهم، لكن حلمه الأول هو شراء طائرات خاصة ويخت كصديقه الخليجي رجل الأعمال المعروف، ولذا عينه على المقرضين لتمويل هذه الأحلام التي لا تتوقف.

لا يفكر في كيفية سداد الأموال الكثيرة التي اقترضها طوال السنوات الماضية حتى ولو كانت النتيجة أن تقذف به هذه القروض في متاهات التعثر في حال عدم السداد.

لم يسأل نفسه يوما ما كيف سيسدد كل ما اقترضه من أموال ضخمة وفي فترة وجيزة، ولم يسأل كذلك عن تكلفة هذه الأموال وعبئها عليه وعلى الأسرة الصغيرة التي يعولها، بل كل همه هو أن يشار له بالبنان على أنه الرجل الأغنى في المدينة حتى وإن كان جيبه خاوياً.
شعاره دوما "أحيني اليوم وأمتني غدا"، ولذا لم يعلم أولاده في يوم ما المثل القائل "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود"، لأنه لا يؤمن به من الأصل، لم يعلمهم ضرورة التحوط من غدر الزمان، بل علمهم أحدث الأساليب في الاستدانة والاقتراض بكل العملات ووضع اليد في جيب الآخرين.

مثله الأعلى الخديوي توفيق الذي أغرق مصر في الديون، ويسير على خطى الخديوي إسماعيل الذي كان يقترض لإقامة مشروعات سماها بالكبرى والقومية في ذلك الوقت مثل دار الأوبرا وغيرها وبعدها توقف عن سداد الديون المستحقة، والنتيجة إغراق مصر في الديون وعجز عن السداد ثم اضطرار لقبول وصاية أجنبية وتعيين وزيرين أجنبيين في الحكومة إنكليزي للمالية، وفرنسي للأشغال لهما حق النقض على القرارات الحكومية خاصة المتعلقة بالإنفاق، وبعدها فقدت مصر استقلالها.

الأسرة تريد من الأب أن يلتفت لها، وأن يدرك حجم المأساة التي أوقعها فيها وأن يتوقف عن الاستدانة حتى لا يغرق الأحفاد كما أغرق الأبناء.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".