شمس بدران الرجل الغامض بسلامته (1 من 3)
"في 25 أكتوبر عام 1986 نشرت صفحة أخبار اليوم في صفحة الحوادث الخبر التالي: قضت محكمة عابدين للأحوال الشخصية بفرض نفقة شهرية مؤقتة للسيدة منى مصطفى رشدي ضد زوجها وزير الحربية الأسبق شمس بدران وأحالت المحكمة الدعوى للتحقيق لإثبات أوجه النشاط التجاري لشمس بدران وحالته الاجتماعية وقد سارع محامي شمس بدران في اليوم التالي لصدور الحكم بعرض النفقة على يد محضر، وقال إن زوجة شمس بدران كانت تتقاضى معاشه كوزير سابق وقدره 230 جنيه في الشهر. كانت السيدة منى رشدي قد قامت في يونيو 1986 بطلب الطلاق من شمس بدران في المحكمة، معللة طلبها بأنه هرب إلى خارج البلاد، وغاب عنها لمدة تزيد عن عشر سنوات، ولم يحاول الاتصال بها طوال فترة غيابه، كما أنها لا تعرف له مقر إقامة معيناً.
لم تنشر الصحف المصرية بعد صدور حكم النفقة الشهرية أي تفاصيل عن مصير العلاقة بين منى مصطفى رشدي وزوجها الهارب شمس بدران وزير حربية هزيمة يونيو، والذي تمت الإطاحة به بعد الهزيمة مباشرة، وتم القبض عليه ومحاكمته مع عدد من رجال المشير عبد الحكيم عامر، لكنه خرج من السجن في عام 1974 بعد 8 سنوات من سجنه، وسمح له السادات بالسفر خارج مصر في ظروف غامضة، ولا يزال يعيش في لندن حتى الآن، ولا زلنا ننتظر اليوم الذي تخرج فيه أسراره إلى النور، بعد أن فشلت أول محاولة لإخراجها عقب ثورة يناير، حين قامت جهات سيادية بمنع نشر حوار مطول كان قد أجراه معه الناشر محمد الصباغ، وكنت من الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، ليس لأني مهتم بأي تفاصيل أو معلومات يمكن أن يرويها شمس بدران عن دوره في هزيمة يونيو، وعن علاقته الملتبسة بكل من عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، فقد كنت للحقيقة مهتماً أكثر بمصير التسجيلات النادرة التي يمتلكها شمس بدران لمحمد عبد الوهاب، والتي يقال أنها تحتوي على أغنيات لم تر النور بعد، وأتمنى أن يتيح شمس بدران سماعها لنا قريباً، لتكون تلك حسنته الوحيدة التي لن تغفر شيئاً من ذنوبه في حق مصر".
بعد أن نشرت هذه السطور في هذه المدونة بتاريخ 6 يونيو 2019 أرسل لي صديق كتاباً بعنوان (مذكرات شمس بدران) من تأليف حمدي الحسيني زميلي في مجلة روز اليوسف في بداية مشواري الصحفي، والذي التقى شمس بدران في مدينة Plymouth في جنوب غرب بريطانيا في جلسات امتدت على مدى أكثر من أسبوعين بمعدل ثلاث ساعات صباحا ومثلها مساءً، كانت حصيلتها تلك المذكرات التي صدرت عن مركز النخبة للنشر في عام 2014، لكنها لم تلق الكثير من الاهتمام الإعلامي، وبرغم أن الكتاب الذي يضم المذكرات ـ أو الحوارات بمعنى أدق ـ حرص على تقديم عنوان مثير وغير متطابق مع مضمونه هو "أسرار الحياة الخاصة لـ: ناصر وسعاد ـ السادات وهمت"، إلا أنني بدأت قراءة الكتاب من منتصفه، حين رأيت فصلاً يحمل عنوان (قصتي مع عبد الوهاب)، متمنياً أن أعرف مصير التسجيلات النادرة التي تحدث عنها عبد الوهاب من قبل متحسراً عليها.
كان يحرص على الغناء خلال زياراته التي كانت تستمر لساعات، ولا تنتهي إلا حين يشعر عبد الوهاب بالتعب فيقوم شمس بإيصاله إلى منزله، في إشارة كان ينفي بها ما نشر عن أنه كان يطلب من عبد الوهاب الانصراف حين يكبس على شمس النوم، ويضيف شمس أن عبد الوهاب رحّب حين عرض عليه شمس أن يقوم بتسجيل الجلسات
يؤكد شمس بدران أنه لم يسع للحصول على تسجيلات خاصة ونادرة من عبد الوهاب الذي كان شمس يعشقه ويعتبره أكفأ المواهب الغنائية في مصر على الإطلاق، وأنه لم يكن معجباً بأم كلثوم ولا بفنها، وتجنب اللقاء معها أكثر من مرة، وحين علم أنها قلقة من صداقته بعبد الوهاب وأثر ذلك عليها، استغرب لأنها لم تكن في باله، ولم يكن ذوقه الفني يتوافق مع لون أغانيها، مؤكداً أن عبد الوهاب كان يزوره في منزله كل أسبوع تقريباً دون إكراه كما نشر البعض، وكان يحرص على الغناء خلال زياراته التي كانت تستمر لساعات، ولا تنتهي إلا حين يشعر عبد الوهاب بالتعب فيقوم شمس بإيصاله إلى منزله، في إشارة كان ينفي بها ما نشر عن أنه كان يطلب من عبد الوهاب الانصراف حين يكبس على شمس النوم، ويضيف شمس أن عبد الوهاب رحّب حين عرض عليه شمس أن يقوم بتسجيل الجلسات، وأنه كان يُسمع شمس ألحانه الجديدة ويستطلع رأيه فيها، وبدأ شمس يقدم له بعض الأشعار التي تصله من بعض الضباط أو أقاربهم ويعرضها عليه، فكان يستبعد أغلبها ويلحن بعضها، ثم يؤكد أنه لم يفكر للحظة في استثمار تلك التسجيلات النادرة مادياً، ولم يساوم عبد الوهاب عليها كما قال البعض.
لم تنقطع صلة شمس بدران بعبد الوهاب بعد خروجه من مصر، حيث التقاه مرة أثناء علاج عبد الوهاب في باريس في لقاء يصف تفاصيله قائلاً: "كان في حقيبتي أحد الأشرطة التي سجلناها معاً، وخلال اللقاء استمعنا لمحتواه، وأعادتنا الأغنية إلى الوراء لأكثر من عشرين عاماً، وعندما تأكد من نقاوة الصوت في الشريط سألني ماذا ستفعل في هذه الأغاني؟ فقلت له أحتفظ ببعضها لاستعادة الذكريات والاستمتاع بها في الغربة، فاقترح فكرة استثمار مضمونها الفني، وإعادة طرحها في الأسواق بشكل تجاري عبر الشركة الفنية التي كان يملكها، وعدته بالبحث عنها ومحاولة تجميعها، لكن هذا لم يحدث، ليس عن عمد بل لأني فشلت في العثور عليها، فقد كنت أنوي ردها لصاحبها لأنها لا تمثل بالنسبة لي أكثر من كونها جزءاً من ذكريات لمرحلة مثيرة من عمري".
طيب، انجز يا شمس وقل لنا ما هو مصير هذه الأشرطة لأنها أصلاً السبب الذي يجعلني أقرأ مذكراتك؟
يرد شمس قائلاً: "طبعا هذا السؤال كثيرا ما رددته الصحف في مصر، خاصة المهتمين بجمع تراث الراحل العظيم، لن يصدق البعض بأن ظروف خروجي من مصر وما صاحبها من عجلة وقلاقل لم يتح لي فرصة جمع هذه الأشرطة. الذي حدث أنني اصطحبت بعضها معي إلى الخارج، ونظراً لتعدد تنقلي من بلد إلى بلد ومن مسكن إلى مسكن كانت النتيجة ضياع أغلب هذه الأشرطة، والشريط الوحيد الذي تبقى بحوزتي حصل عليه أحد الصحفيين على سبيل الهدية، بعد أن أسدى لي جميلاً يتعلق بظهوري في برنامج تلفزيوني، لكن المؤلم أنني علمت من صديق مصري بعد ذلك أن هذا الشخص عرض بيع هذا الشريط النادر على أحد الأثرياء العرب مقابل 5 ملايين جنيه".
هل قال شمس بدران لحمدي الحسيني اسم ذلك الصحفي أو اسم الثري الذي لا نعلم هل اشترى الشريط أم لا؟ وإذا كان قد قال له الاسمين فهل ينوي حمدي الحسيني في مرحلة ما إعلانهما؟ وهل يمكن أن نجد في ذلك الشريط لحناً وهابياً تائهاً لم ير طريقه إلى النور؟ أم أن عدم لهفة عبد الوهاب على استعادة الأشرطة كما ظهر من خلال حواره مع شمس بدران تعني أنه قام في وقت لاحق بتسجيل ما بها من ألحان؟ يبدو أننا لن نجد إجابات حاسمة على تلك الأسئلة التي ستضاف إلى قائمة أطول من الأسئلة المرتبطة بذلك الرجل الغامض الذي لم يكن غريباً أن يفشل في الحفاظ على أشرطة عبد الوهاب، وقد فشل في مهمته الأبرز كوزير للحربية، وفي الوفاء بالتزاماته تجاه زوجته التي قالت أمام القضاء إنه تركها لمدة عشر سنوات دون أن يحاول الاتصال بها.
يكشف لنا حمدي الحسيني أن شمس بدران التقى بالرئيس السادات بعد أن أخرجه من السجن مع عدد من الشخصيات ثقيلة العيار مثل صلاح نصر وعباس رضوان، وطلب منهم السادات الابتعاد عن العمل السياسي وأعلن عن استعداده لتشجيعهم على عمل أي نشاط تجاري، وحين قال له شمس إنه يفكر في السفر إلى خارج مصر قال له السادات إنه سيمنحه جواز سفر دبلوماسي لتسهيل انتقاله، ومع أنه لم يكن يمتلك حين سفره سوى معاشه الذي لا يتجاوز مئتي جنيه، إلا أنه استمع بعد ذلك إلى شائعات قالت إن السادات سمح له بتهريب 6 ملايين جنيه مقابل الخروج النهائي من مصر والتخلص من خطره عليه، في الوقت الذي كان قد قام ببيع قطعة أرض في الدقي حصل عليها بحكم كونه ضابط جيش وكانت تجاور قطعة أرض حصل عليها عبد الحكيم عامر، وأنه قام بعد ذلك بتوديع ابنه وابنته وزوجته وسافر إلى باريس التي كان يعيش فيها صديق له يعمل في التجارة، وبعد فترة إقامة قصيرة فيها توجه إلى لندن وبدأ العمل التجاري مع صديق من دفعته في الكلية الحربية عام 1948 كان يتم تكليفه بمهام استخباراتية من حين لآخر قبل أن يمارس العمل التجاري، فأهداه صديقه سيارة فارهة وبدأ يتلقى عروضا بالعمل في تجارة السلاح، لكنه خاف من أن يلقى مصير زميله علي شفيق ـ مدير مكتب المشير عامر سابقاً ـ والذي تم العثور عليه مقتولا في شقته بسبب تجارة السلاح.
انفصل بعدها شمس بدران عن زوجته في مصر، وبعد أكثر من 15 عاماً قضاها في لندن ممارساً التجارة مع صديقه، وبعد أن لاحظ تزايد عدد الإسلاميين المتشددين فيها، لدرجة أنه كان يقابل بعض من يعرفهم منهم في المقاهي والمحلات، وحذرته المخابرات البريطانية من محاولة سيقوم بها بعض هؤلاء المتشددين لاستهدافه، قرر الهجرة إلى بلدة صغيرة في جنوب بريطانيا، وهناك التقى بالصدفة بسيدة بريطانية وأعجب بها وتزوجا وأنجب منها ولدين كانا قد أنهيا الدراسة الجامعية حين التقى حمدي الحسيني به، ليكتشف حمدي أن زوجة شمس البريطانية وأبناءه لا يعلمون شيئاً عن خلفيته السياسية والعسكرية ويعرفون عنه فقط أنه مجرد رجل أعمال مصري قام بافتتاح مصنع للألبان في المدينة بدعم مالي قال إنه حصل عليه من أقارب له هاجروا منذ سنوات إلى الولايات المتحدة.
حين دار حديث بين حمدي وزوجة شمس البريطانية وتطرق الحديث إلى خلفية شمس العسكرية، طلب منه شمس أن يغير الحديث لأن زوجته لا تعرف سوى القليل عن حياته في مصر، وأن صلته الوحيدة بمصر كانت من خلال شقيقته الصغرى المقيمة في حي الدقي التي يتصل بها من حين لآخر، وفي حين تحدث عن حنينه الدائم إلى محل كوارع في السيدة زينب كان زبوناً دائماً عنده في شبابه، لاحظ حمدي أن بيت شمس في تلك المدينة الهادئة يخلو من أي ملامح مرتبطة بمصر كما تجد عادة في بيوت المهاجرين، وهو ما يكشف الكثير عن شخصيته الغامضة التي زادتها المذكرات غموضاً، برغم أنها أجابت على عدد من الأسئلة المهمة التي تخص دوره في الحياة السياسية المصرية في الفترة التي سبقت هزيمة 1967.
...
نكمل قراءة المذكرات غداً بإذن الله.