04 أكتوبر 2023
"شعرة الأسد" في الاقتصاد السوري
يعيش المواطن السوري العالق تحت وطأة نظام الأسد، هذه الأيام، أزمة خانقة في تأمين مادة الغاز، يصطف أمام المراكز ومعتمدي التوزيع يومياً ساعات طويلة، وقد يفلح في نهاية المطاف في تأمين أسطوانة ليطبخ عليها أو لا يفلح غالباً.
فتسريبات النظام تقول إن "الإرهابيين" في إدلب نجحوا في استجرار الغاز إلى مناطقهم. وهكذا انهارت خدمة تأمين الغاز في الدولة كلها، لأن بضعة إرهابيين -مفترضين- نجحوا في نقل بضع أسطوانات من الغاز إلى إدلب التي يرتاح نظام الأسد من خدمات مواطنيها كافة منذ 8 سنوات، موكلاً أمرها "للإرهابيين".
فتسريبات النظام تقول إن "الإرهابيين" في إدلب نجحوا في استجرار الغاز إلى مناطقهم. وهكذا انهارت خدمة تأمين الغاز في الدولة كلها، لأن بضعة إرهابيين -مفترضين- نجحوا في نقل بضع أسطوانات من الغاز إلى إدلب التي يرتاح نظام الأسد من خدمات مواطنيها كافة منذ 8 سنوات، موكلاً أمرها "للإرهابيين".
وسأصدق هنا رواية النظام عن مؤامرة الإرهابيين الأوغاد، ولن أذكر أنني ومنذ وعيت أعلم جيداً أن المواطن يعيش أزمة في تأمين الغاز مع نهاية كل سنة وبدايتها.
قبل ذلك ومن دون أية مبررات، عاش المواطن أزمة خانقة في تأمين مادة الخبز، وكما هي الحال مع الغاز، راح المواطن يصطف يومياً لساعات طويلة أمام الأفران ليحصل على ما يسد به رمق عائلته من خبز بائس، وفي النهاية يحصل على ما يراه النظام كافياً ليشبع لا ما تراه أمعاء أطفاله مشبعاً، سبب تلك الأزمة حينها -ودائماً بحسب رواية النظام- كان أن مجموعة من التجار الملاعين باعوا الطحين المخصص للخبز في السوق السوداء. وهكذا -مرة أخرى- انهارت صناعة الخبز في الدولة كلها بسبب بضعة تجار باعوا بضعة أكياس من الطحين.
وقبل الأزمتين، جادت السماء ببعض المطر في العاصمة، ولكن المطر كان أعلى من المعدل بقليل، فغرقت العاصمة. لم تقع المسؤولية هذه المرة على الإرهابيين، ولله الحمد، بل على السماء التي أمطرت أكثر مما ينبغي.
وقبلها انهارت شبكة الكهرباء، لأن المواطن شعر بالحر فشغّل المراوح والمكيفات، وستنهار ثانية لأن المواطن -عديم المسؤولية- سيستخدم الكهرباء مجدداً في التدفئة، بعد أن تنهار المحروقات لأن المواطن -وبشكل مفاجئ للنظام- يستخدم المازوت للتدفئة شتاء.
وهكذا يعيش المواطن حياته كلها محاصراً بالنقص والفاقة والأزمات، ليصبح العيش من دونها ضرباً من الخيال، إنها تدخل في نسيج حياته وتركيب هويته وتفكيره.
لقد استغرقتُ أشهراً طويلة حتى تقبّلت كيف أنه في كل صنابير تركيا يوجد ماء، في أية لحظة تفتح الصنبور سيكون فيه ماء، في أية لحظة تشغّل مفتاح الضوء ستكون هناك كهرباء، ولم أستوعب كيف يعيش التركي الجار -الذي خرج قبل أقل من عشرين سنة تقريباً من انهيار اقتصادي شامل- من دون وقوف في طوابير ليحصل على أسطوانة غاز، الغاز يصل إلى بيته بالحنفية! وكأن ذلك من أجواء ألف ليلة وليلة، المؤكد أن الإرهابيين الملاعين لن يسرقوه إلى إدلب.
ويكفيه أن يقف بضع دقائق على الموقف ليحصل على سيارة أجرة أو باص عام للنقل، ويمكنه عبر تطبيق على الموبايل أن يعرف متى سيصل الباص إلى الموقف اليوم وغداً وبعد سنة، وسيصل من دون أن يؤخّره افتتاح المدارس أو دوام الموظفين أو مؤامرة كونية! يمكنه أن يشتري الخبز في أية لحظة وعلى مدار 24 ساعة طازجاً ساخناً من دون أن يسرقه التجار الملاعين. شوارعه لا تغرق في مياه الأمطار وهي أضعاف ما تشهده شوارع دمشق. محطات الوقود لديه فيها مازوت دائماً، على الرغم من أن دولته لا تنتج النفط أصلاً!
أية حياة مملة تلك التي يعيشها التركي من دون أن يقضي ساعات طويلة كل يوم في الانتظار أمام الفرن أو محطة الوقود أو موزع الغاز أو موقف الباص أو المؤسسة الاستهلاكية؟
ثم كيف حقق الأتراك هذا كله وهم ليسوا دولة مقاومة أو ممانعة؟ كيف حققوه وليست لديهم قيادة قُطرية أو قومية أو جبهة وطنية تقدمية أو خطط خمسية؟ كيف يمكن للدول أن تنجح هكذا؟
ذات مرة، قال لي رجل حكيم: إن العكس هو الصحيح، وإن المهمة الحقيقية لكل هذه "المؤسسات" هي محاصرة المواطن والتضييق عليه، ومحاربة أخطر الأعداء؛ الوفرة.
الوفرة خطر قاتل، عدو داهم، من شأنه تفكيك الأنظمة الممانعة المقاومة وفضح عريها، ولذلك يتوجب عليها دائماً خلق الأزمات والتفنن فيها، لحرق عمر المواطن وحياته وأحلامه وآماله، لا يجب أن يرتاح، لا يجب أن يلتقط أنفاسه، لا توجد استراحة بين أزمتين. فالويل كل الويل لو ارتاح هذا البائس وشعر ببعض الأمان الاقتصادي أو الخدمي، فذلك منذر بزوال الدولة كلها، لأنه سيتمكن حينها من التفكير في واقعه ومأساته.
وهكذا جهد الأب والابن من بعده في بناء دولة كاملة وفق "اقتصاد الشعرة"، ليست شعرة معاوية هنا، بل الشعرة الأسدية، التي تسمح للمواطن بالاستمرار في الحياة تفضّلاً ومكرمة يمكن في أية لحظة أن تتوقف بفعل مؤامرة وأعداء يتربّصون بنا منذ ولدنا، بنا وحدنا من دون بقية خلق الله. الشعرة التي يكفي أن تنقص منها بضعة أكياس طحين أو أسطوانات غاز أو ليترات مازوت أو ماء مطر حتى تنقطع وتنهار الدولة ويشعر المواطن أنه في مهب الريح!
لكن الأمر الذي لم يستوعبه هذا النظام، على الرغم من كل الدهاء والقمع والمنع والسنوات الطويلة من التعامل وفق اقتصاد الشعرة الأسدية، هو كيف تمكّن هذا المواطن اللعين من التقاط أنفاسه ليقول: لا! متى وجد الوقت لذلك؟ كيف فعلها وأشعل ثورة؟
هذا ما لم يجد نظام الأسد له جواباً، وهذا -تحديداً- ما يجعله يُمعن اليوم في خنق من تبقى من المواطنين أكثر، عبر أزمات متلاحقة، خوفاً من "لا" أخرى، قادمة لا محالة.