سيرة عبد الله سيتامبوسيبل (3)

16 نوفمبر 2021
+ الخط -

لست ميت القلب. بداخلي نقاط بيضاء ناصعة وأخرى خضراء كالبراعم، وقلبي مفعم بالحب لكل فتاة جميلة أراها وخاصة حبيبتي آكلة الفشار. حلوة الجملة دي. وعهد الله أنا اللي كاتبها زي ما هي مش الجدع بلال.

في الأسبوع التاني ذهبت إلى المقهى إياه ثانية، كانت ليلة سوداء بهيمة مثلي، كان الفيلم في غاية الإثارة، وأنا في منتهى النشوة والفلس، سهرت حتى الصباح وعند ذهابي إلى العمل سقطت من شدة الآلام المفاجئة، في نفس اليوم عملت عملية المصران الأعور، قال أنا كنت ناقصه يعني، زارتني فتاتي حزينة، لتقول لي إني ملكت قلبها وملأت حياتها، أنا فعلًا أحبها، وأحب الجنس الذي لا أمارسه معها في الحلال وأحب التدخين وعائلتي الصغيرة، والفلوس أبعد من السحاب، لكنها لازمة لكي يحبني كل هؤلاء، وأنا على فراش المرض سألت نفسي هل 150 جنيه كافية لأن يأكل الإنسان شيئًا غير نفسه؟

أصبح لازمًا عليَّ أن أثبت حسن النوايا تجاه البنت وأروح أقابل أهلها، خاصة وقد أثبتت نجاحها في كل الاختبارات، هي قابلتني بره بس ما خلتنيش ألمسها بره حدود الأدب، تخيلوا واحد زيي تعبان مُلّة وجِعان نسوان، وهو يضع بنت جميلة تحت اختبارات الأدب، ذهبت إلى أهلها فوجدت ما لا يسر "البيني آدم"، عايشين في عشش صفيح ولها إخوات وقرايب حرامية وسوابق ومساجين. كانت هذه هي التجربة التي يدعو صديقي شادي المسيحي الرب ألا يدخله فيها، لكنني دخلت، وكان لا بد أن أخرج قبل ما أتمسك، تهربت من وعود الزواج من الفتاة وعندما أخذت تلح عليَّ في كل مرة تقابلني لم يكن هناك بد من مصارحتها بأني لن أتزوج إلا في عام 2017 مع افتتاح الرئيس مبارك لتوشكى، يئست الفتاة وضاعت مني بسبب المال، لقد كانت ضربة قوية تحت الحزام من هذا الملاكم المسمى بالقدر.

لعلها الآن عادت لاصطياد زبون جديد بالفشار، كما عدت أنا ثانية إلى دوامة الحياة مستعينًا بمرتبي الضئيل، 50 جنيه للبيت و50 جمعية و50جنيه لمصاريفي بواقع 2 جنيه إلا شوية في اليوم منها 50 قرش فطار كل يوم وعشرة جنيه متفرقة أصرفها مع صديقي ونصفي الآخر وزميلي الوحيد في الدنيا التي تهزمه دائمًا، وليد الذي لا أعرف سواه ولا يعرف سواي منذ 20 عامًا ونيف زي ما بيقولوا، يعلم كل شيء عني وأعلم كل شيء عنه كأننا كتابين مفتوحين لبعض، حتى عدد مرات العادة العلنية في اليوم، يعلمها كل منا عن الآخر ولا مؤاخذة، من باب التشجيع المتبادل وتطمين بعضنا البعض بأنه لا زال لدينا شيء لم نخسره. بالنسبة لي ولوليد الجنيه ثروة، وصرف 10 قروش في غير موضعها خسارة فادحة، ولا مكان لأي تجاوزات، الجلوس على المقهى مباح لو كان على حساب الغير، السينمات مُحرمة حرمة الدم الأجنبي، ورغيف الكفتة مُحرّم حرمة لحم الخنزير، السجائر تأتي بالعلبة كل فترة ويتم حبسها في الدولاب ليتم السليف منها بالسيجارة والسيجارتين، لا أدخن في البيت إطلاقًا احترامًا للأهل من جهة وتوفيرًا للفلوس من جهة أخرى.

في أول الشهر عزمني صديقي وليد ليحكي لي طبعًا عن آخر مشاكله الاقتصادية، فوجئت به يلفت نظري إلى أن شعري بدأ يتساقط وصلعتي بدأت تظهر، قال لي بحكمته البالغة: يا ابني إنت حظك غريب!

لن تصدقوا لو حكيت لكم أنني عندما جاء دوري في قبض الجمعية (500 جنيه مرة واحدة) دخلت إلى المستشفى لأعمل عملية الزائدة (تخيل الزايدة دي بنت الكلب ما تجيش إلا للي زي حالاتنا اللي ما بيستعملوهاش أصلًا، بالمناسبة كنت عملت عملية فِتاق قبل شهر، يعني أنا الفقير أعمل ثلاث عمليات في سنة بينما الغني لا يعمل في عمره سوى عملية ترقيع لمن يهمه أمرها). المهم طارت 200 جنيه لزوم العلاج خاصة بعد أن لعبوا في المستشفى في العملية القديمة فبهدلوا الدنيا. لكن أحدًا من الديَّانة لم يرأف بحالي بل توافدوا كالنمور الآسيوية إلى المستشفى ليستردوا فلوسهم، طيب يا أندال والله لأعاقبكم وما عدتش أستلف منكو تاني. بما تبقى من فلوس الجمعية اشتريت بـ 150 جنيه قميص وبنطلون وجزمة، ومن ساعتها لم آتي حتى بقطعة شاش أو أي شيء يمت بصلة إلى القطن والنسيج. بعد كل هذا الهم اللي فضل من الجمعية 30 جنيه، يا فرحتي يا هنايا. لم يبق لي إلا السخرية من نفسي. كنت دائمًا أستهزئ بكل شيء حتى أصبحت أستهزئ بنفسي وأديم الشكوى ولا أحمد الله، بل أسخر وأقول عندما أمر بأزمة مالية إنني لن أشكر ربي حتى لا يزيدني فقرًا على فقر لأنه أستغفره عز وجل يقول ﴿لئن شكرتم لأزيدنّكم﴾.

لم أكن أصلي أبدًا، ولكن بعد تجربة الثلاث عمليات فُقت كثيرًا، وأدركت أنني أتلقى دروسًا إلهية، بأن سخطي لن يغير حالي، ولذلك أصبحت من يومها أعيش في أشد حالات الندم، أدّبت نفسي، وابتعدت عن إدمان قذف أبنائي المستقبليين في البالوعة منذ فترة، وبدأت أحارب شيطان شهواتي وأصلي الفروض وأحاول أن أصلي السُّنن، لكني لا زلت أشعر أن جبال الدنيا «تجسم» (بالسين) فوق صدري، الحياة مش مِساعدة، لا أستطيع أن أصنع بهذا الذي يدعونه المرتب شيئًا، ومن منكم يستطيع أن يفعل به شيئًا إلا قراطيس وخوازيق ويلبسها ولا مؤاخذة. عندما أفكر في المستقبل أجد نفسي مباشرة أفكر في الانتحار، لكني لن أفعل لأني باكره الحر جدًّا، لكني أعود ثانية للتفكير فيه عندما أقول لنفسي: لنفرض أنك أخذت أضخم علاوة في تاريخ الجهاز الوظيفي وأصبح مرتبك قول 450 جنيه وده طبعًا مش هيحصل إلا لما أشوف فلقة ودني، طيب إزاي هاتجوز واسكن وابني حياة بـ450 جنيه؟ فما بالك ومرتبي فعلًا يوم ما هيضربه الدم مش هيعدي بعد عشر سنين الـ 250 جنيه.

على المقهى وفي أول الشهر عزمني صديقي وليد ليحكي لي طبعًا عن آخر مشاكله الاقتصادية، فوجئت به يلفت نظري إلى أن شعري بدأ يتساقط وصلعتي بدأت تظهر، قال لي بحكمته البالغة: يا ابني إنت حظك غريب! إنت عندك كام سنة يعني عشان شعرك يقع وتدخل المستشفى في عمليتين جراحيتين في خلال شهرين؟ لم يكن عندي إلا جواب العظيم صلاح جاهين الذي أصبحت أحفظ كل رباعياته تقريبًا: «أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام.. وحيد ولكن بين ضلوعي زحام.. خايف ولكن خوفي مني أنا.. أخرس ولكن قلبي مليان كلام». وعجبني وليد لأنه لم يفهم ولا كلمة لأنه انشغل بإشعال سيجارة فرط والذوبان فيها. فدعيت على بلال فضل وقرأت الفاتحة لصلاح جاهين.

شوف بقه يا سيدي أكتر حاجة باكرهها في الدنيا إن ضابط يقول لي: بطاقتك وإن حد يقول لي: إنت غلطان إنك ما اتعلمتش ودخلت الجامعة، الجملة الأخيرة دي أمي ماسكاها لي عمال على بطال، هي بالمناسبة مش أمي قوي، لأن أمي الحقيقية سابتني وأنا صغير واتجوزت، وأبويا دخل السجن في قضية ما حدش قادر يحددها لحد دلوقتي، وكان ممكن أبقى سارح أشد كُلة دلوقتي ولَّا ماشي في الشوارع عريان ملط، لولا ربنا ساق لي ست غلبانة بتشتغل خياطة فساتين سواريه مع أنها ساكنة في حارة لو قلت لواحدة فيها عندك تايير، هتلطشك بالقلم وتقولك عيب يا عر.. أنا أشرف من أمك. الست دي خدتني أنا وأختي وربتنا وصرفت علينا لحد ما بقيت فاشل قد الدنيا ولحد ما أختي اتجوزت واد كسيب وخلفت منه، ومع إن أمي هي اللي كانت السبب إني ما أكملش تعليمي عشان "ديك ذات اليد"، بس طول النهار تقولي: «مش كنت اتعلمت ودخلت الجامعة وفلحت»، عشان كده كِبرِت في دماغي من فترة، وقلت هاحوِّش وادخل التعليم المفتوح، عشان أثبت لها إني فاشل حتى لو خدت شهادة، وبعدين قلت بلاش دي حاجة مش محتاجة الفلوس دي كلها عشان أثبتها، هي أكيد حاسة بده، مش قلب أم يا جدع؟

قال تعليم قال، ما عندك الواد مصطفى المصري اللي ساكن تحتينا، دخل الجامعة وخد بكالوريوس خدمة اجتماعية وفضلوا يقطّمونا بيه لما اتفقعنا، تعال شوف حاله دلوقتي، ما فرقش عننا ببصلة احنا اللي واخدين بكالوريوس خدمة بيوت، ومع إنه من دوري لكن تحس إني أصبى منه، لما تشوفه دلوقتي تحس إن عنده 24 سنة شغل ونفاذ، وحتى في الحب خاب نفس خيبتي ويمكن ألعن، خطيبته اللي خطبها في شهر مارس اللي فات هتتخطب لغيره في شهر مارس اللي جاي، ما شفعتلوش قصة الحب «العينيفة» التي عاشها معها سنين طويلة، أصل الحب ما ينفعش إجابة لأسئلة من نوعية معاك كام؟ وهتجيب إيه؟ وهتجهز إمتى؟ وشقتك فين؟ لما يسألك أهل حبيبتك أسئلة زي دي ابقى خلي الحب ينفعك أو حتى خلِّي البكالوريوس ينفعك، لو قلت لهم معايا بكالوريوس إن شاء الله، مش بعيد أبو حبيبتك حاج بيت الله اللي بيصلي الفرض بفرضه يقولك: «البسه يا حبيب أمك».

...

نختم غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.