سيرة المرشح البرلماني الفارط (6)
استأنفنا، في سهرة الإمتاع والمؤانسة، سرد سيرة مرشح الشعب المسطول عبد الحميد الفارط، وقلت إن مشكلة "الكرافة" انتهت على خير، وأصبح المرشح جاهزاً لالتقاط صورة بالطقم الرسمي والكرافة عند المصور صبحي شعبان، وقد أُنْجِزَتْ هذه المهمة بنجاح، وانتقل المهتمون بالأمر إلى الخطوة التالية، وهي إرسال الصورة إلى مطبعة العمل الشعبي لطباعة عدد كبير من النسخ وتوزيعها على جدران المدينة والأرياف. وفي عصرية النهار، اجتمع أفرادُ الشلة في دار البَخّ، من أجل البحث عن أكثر العبارات تأثيراً بجماهير الناخبين، لتدوينها تحت الصورة، وتوصلوا إلى عبارات من قبيل:
انتخبوا مرشحكم القوي عبد الحميد الفارط.
انتخبوا مرشحكم المتماسك عبد الحميد الفارط.
هذا أنا والخيار لكم.
إنني أضع نفسي أمانة في أعناقكم، فصونوا الأمانة.
وحينما وصلوا إلى مناقشة الفقرة المتعلقة بضرورة إبراز أو عدم إبراز ولاء المرشح عبد الحميد للقائد التاريخي حافظ الأسد، انقسموا إلى فريقين رئيسيين، ونشب بينهما خلاف حاد، إذ ذهب أولُهما، الذي يمكن تسميته "فريق الصقور"، إلى أن هذا الشيء يجعل مرشحَنا الفارط نسخة طبق الأصل عن آلاف المنافقين الذين يمتدحون حافظ الأسد بقصد التمسح بالسلطة، ليحصلوا على مكاسب شخصية.. والسلطة، من جهتها، تعرف كم هم تافهون ورخيصون، فتستوعبهم، وتسمح لهم بالحصول على بعض فُتَات الموائد.. أضف إلى ذلك أن الناس، خلال عقدين من الزمان، قرفوا من المنافقين، وكفروا بهذه التصرفات والمظاهر التي تنم عن الصَغَار والوضاعة.
وكان أبو مراد ضمن فريق الصقور، وقد لمّح إلى أنه يفكر جدياً بسحب الكرافة من أبو أيوب، والتخلي عن تأييده في حملته الانتخابية إن هو نافق لحافظ الأسد الذي كان سبباً في قهر والده، ثم وفاته.
وذهب الفريق الثاني، "فريق الحمائم"، إلى أن ممارسة قليل من التقية في هذا الموقف لا يضر بقضيتنا، وبالتالي لا يوجد أي مانع من ذكر اسم حافظ الأسد في الإعلانات الانتخابية، بشكل عرضي، كالقول، مثلاً، إن عبد الحميد الفارط يرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب، مستجيباً لنداءات أبناء الشعب من جهة، ومستفيداً من الأجواء الديمقراطية التي يوفرها هذا القائد المعطاء لشعبه من جهة أخرى! ولأجل مزيد من الحيادية يمكننا، إذا شئتم، استبعاد كلمتي "القائد" و"المعطاء"، على نحو نهائي، لأن فيهما "حكم قيمة"!.. وأوضحوا أن هذا التصرف سوف يُسَجَّلُ في مصلحة السيد عبد الحميد، إذ لا ريب أن القيادات العليا سوف تعلم به، وتعطيه، من ثم، الضوء الأخضر، ليصبح، بعون الله تعالى، في عداد الناجحين!
حينما وصلوا إلى مناقشة الفقرة المتعلقة بضرورة إبراز أو عدم إبراز ولاء المرشح عبد الحميد للقائد التاريخي حافظ الأسد، انقسموا إلى فريقين رئيسيين، ونشب بينهما خلاف حاد
وكالعادة في مثل هذه المواقف، ظهر "تيار ثالث" تزعمه الأخ "أبو ناجي سطوح البير"، الذي قال ما معناه إننا لا نريد أن يموت الذئب ولا أن تفنى الغنم، وأنتم خير من يعلم أن الناس في بلادنا باتوا يمتنعون عن الذهاب إلى المراكز الانتخابية والإدلاء بأصواتهم ليقينهم أن مَن يذهب ومَن لا يذهب سيان، فقائمة مرشحي الجبهة الوطنية التقدمية ناجحة حتماً، وأما المقاعد القليلة التي تتنافس عليها البقية الباقية من أبناء الشعب فلا تسلم من العبث.. ومعلوم أن جماعة المخابرات يضعون إمكاناتهم كلها لإنجاح مرشح ما، وإسقاط مرشح آخر، فإذا نحن لم نوحِ لهم أن مرشحنا موالٍ للرئيس الأسد، فلا شك أنهم سيحولونه، في المحصلة، إلى خَرَا شْقُرُّقْ (براز ضفادع)!
حينما وصل أبو علي في حديثه إلى هذه النقطة لاحظ أن مشادة بالأيدي تحصل بالقرب من الباب، بين أبو مراد وأبو عَلَّام القبلي، انفجر بعدها أبو مراد بالصراخ، قائلاً:
- اتركني أبو علام. اتركني أحسن ما أشقشق تيابي وأعمل مشكلة إلها أول وما إلها آخر. أخي، أنا بدي أنسحب من كل هالمعميكة، وبالنسبة للكرافة سامحتكم فيها، خيو اعتبروها صدقة عن روح والدي الحاج مراد.
قال أبو علام: طول بالك يا أبو مراد.
فازداد غضب أبو مراد وقال:
- ما بدي أطول بالي، ولا بودي أقصره.. ولك عمي، أنا شايف هذه الانتخابات كلها على بعضها مسخرة وسرسرة، واللي بيرشح نفسه إلها، مع احترامي لصديقنا أبو أيوب، مجنون!
رفع عبد الحميد يده اليمنى، كعادته حينما يريد أن يتكلم، وقال:
- و.. أنا مجنون!
أحدثت هذه العبارة الموجزة المفاجئة مفعول السحر بأفراد الشلة، فضحكوا، جميعاً، في آن واحد، ثم انطلقت أيديهم بالتصفيق، والتمّ بعضهم حول بعض وهتفوا:
- أبو أيوب عشقنا... دوز دوز هيه!...
هذا كله بينما كان عبد الحميد يبتسم بهدوء وثبات، منتظراً فرصة لمواصلة الكلام، فلما وجدها قال:
- والله العظيم أنا ما عم إمزح. أبوي، الله يطول لنا بعمره، لما عرف إني بدي رشح نفسي في القرية، ضربني بفردة جاروخه الديري على عيني، وقال لي: أنت مجنون! ووقت أنا أصريت على إني إترشح حتى ولو في مدينة إدلب قال لي: بالناقص منك، انقلع، انشالله ترشح نفسك في جهنم الحمرا، ولا تنسى تخلي الناس يتضحكوا عليك، خطية، أكيد راح تلاقي في إدلب ناس مَلَّانين وبدهم يتسلوا. يلعن جنونك يا مجنون الصرماية!.. وأجوا أهل زوجتي المسا على بيتي، وطلبوا من زوجتي تضب بقجتها وتروح معهم هي والأولاد على بيتهم.. أنا سألتهم عن السبب قالوا لي:
- السبب واضح، أنت مجنون.
أبو محمد: أنا شايف مو بس المرشح مجنون.. الشلة تبعه تلات ارباعهم مجانين.
أبو مرداس: جنون من نوع خاص. فينا نسميه "جنون الضحك"، من كتر حبهم للمقالب والمواقف المضحكة بقيوا زمن طويل وهني لاحقين المرشح الفارط من مكان لمكان، وكل يوم بيعقدوا أكتر من اجتماع، وأوقات الشغلة تكلفهم مصاري، بيدفعوا من دون اعتراض.
أم الجود: أي وأشو صار بعدين؟ اتفقوا؟
أبو المراديس: لا والله. الاجتماع اللي كان منعقد في دار البخ انتهى من دون ما يتوصلوا لاتفاق. الشي الوحيد الذي بقيوا متفقين عليه هو الاستمرار، مع تيسير الله، بهالحملة الانتخابية، بدليل أن أبو علي البَرْمة وتنين تانيين تركوا الوضع على ما هو عليه في الدار، وانطلقوا باتجاه مطبعة العمل الشعبي، لأجل الانتهاء من معضلة الصور، وطلع بعدهم عبد الحميد مع أفراد مجموعته الصغيرة اللي سموا حالهم "أركان الحرب".. بقية أعضاء الشلة انصرفوا بشكل كيفي.