سيرة المرشح البرلماني الفارط (5)
(قصةٌ تجرُّ قصة، وكأننا على شاطئ البحر حيثُ موجةٌ تدفع أمامها موجة، وتجبرها على التلاشي). على هذا النحو وصف الأستاذ كمال طبيعةَ سهرة الإمتاع والمؤانسة. وقال:
- حكى أبو مرداس في السهرة الماضية عن الجو الاحتفالي الهزلي اللي أعقبْ العثورْ على كرافة (ربطة عنق) لمرشح مجلس الشعب المسطول "عبد الحميد الفارط".. وكانْ أحلى شي في القصة الحركاتْ الكاريكاتورية اللي عملها عمنا الظريف خليل بزارة أبو عمر لما كوى الكرافة، وصار يبخ رذاذ بخار المكواية في وجه المرشح الصنديد، ويصيح:
أبو أيوب عشقنا
دوس، دوس، هيه
صلوا على محمد، زين زين
مكحول العين
واللي يعادينا، الله عليه..
وحتى تكتمل اللوحة الهزلية، سحب أبو علي البرمة مسدسه، وكان على وشك يخرطشه، ويسحب مشط في الهوا، لكن أبو إبراهيم البايملي منعه من إطلاق النار، وقال للحاضرين:
- يا جماعة، لا تنسوا إنه أبو أيوب مترشح خارج قائمة الجبهة الوطنية التقدمية، وأكيد المخابرات والبعثيين معتبرينه معارض، وهوي في الحقيقة معارض، فهلق إذا بيسمعوا صوت إطلاق النار راح يستنفروا، ويبلشوا البحث عن مصدر الصوت، ولما بيعرفوا إن نحن اللي عم نقوّس ممكن يعملوا القضية أمنية، ويستغلوا الموقف ضد مرشحنا، وهيك بتكون الآمال اللي نحن معلقينها على أبو أيوب تلاشت..
أبو المراديس: بما إن القصة قصتي، اسمحوا لي أحكي قصة تانية إلها علاقة بقصة الكرافة، وهادا الشي بيأكد صحة وصف كمال لسهرتنا بشاطئ البحر (موجة تدفع موجة).. يا سيدي أبو أيوب لبس الكرافة، وصار يلمس عليها بإيده، ويتأكد من طولها، بحيث ما تتجاوز كمر البنطرون، وفي هالأثناء قال أبو علي البرمة:
- كل الشكر لأخونا أبو مراد. لكن أنا بدي أسأل سؤال، أيش قصة الكرافة؟ ومين اللي ربط فيها السجادة؟
قال أبو مراد: هون ما فيني إحكي، لأن الموضوع خطير. خلونا نروح عَ دار البَخّ، منبرك ومنسكر الباب من جوة، ومنحكي.
في دار البخ، بعدما أُغلق الباب جيداً من الداخل، روى أبو مراد لأفراد الشلة أن المرحوم والده، الحاج مراد، كان مولعاً باللباس الرسمي، لا يخرج من البيت، حتى ولو لشراء بضعة أرغفة خبز من فرن الناعس، دون أن يرتدي الطقم الرسمي، إضافة إلى القميص الأبيض والكرافة! وفي يوم من الأيام، كان واقفاً بالطابور، أمام باب المؤسسة العامة الاستهلاكية التي تبيع الرز والسكر للمواطنين بسعر مخفض، ومن كثرة الازدحام، والحَر، والتدافع، والصياح، والغبار، ارتفعت الحالة العصبية لديه، وفقد السيطرة على نفسه، وقال كلاماً ينتمي إلى جنس السباب على الأوضاع السياسية.. ومن شدة اضطرابه وتهوره انزلق قال:
- عم نتحمل هالذل كله كرمال المجرم الحقير حافظ الأسد اللي فَقَّر سورية وخلى شعبها العزيز يوقف ساعات تحت الشمس بعز الشوب لحتى يحصل كم كيلو رز أو سكر، أو..
سكت أبو مراد فجأة، إذ لاحظَ أن أجسام الحاضرين في دار البخ بدأت تهبط إلى الأسفل، ورقابهم تكش وتلتصق بأكتافهم من شدة الخوف. قال:
- ما قدر والدي يكمل كلامه. إجاه عنصر مخابرات من قدام ولبطه بين رجليه، وتناوله عنصر تاني من كرافته، وصار يشدها على رقبته حتى كان راح يخنقه، وتكاتروا عليه العناصر، وسحبوه باتجاه سيارة ستيشن واقفة على بعد أمتار، ركبوه وأخدوه على فرع الأمن العسكري.. وعند باب الفرع نزلوه وصاروا يشحطوه حتى وصلوه لعند باب قاعة كبيرة، فتحوا الباب وزتوه لجوه، فوجد نفسه بين مجموعة معتقلين مزروبين على أرض مليانة بقع دم قديمة وجديدة، ولسه يا دوب فتح عينيه بلشت حفلة ضرب ما فيها رحمة ولا شفقة.. وفي هالأثناء شعر بأن الكرافة عم تعص على رقبته، فشلحها ورماها ع الأرض، لكن، فجأة، شافها واحد من العناصر، فأمر بإيقاف الضرب، وصرخ بأعلى صوته:
- وين أبو الكرافة؟!
ما حدا رد عليه، فصرخ: وين الحيوان اللي شحطناه من باب المؤسسة الاستهلاكية بكرافته؟
قال أبي بصوت ممعوس: أنا، يا إبني، أنا هون.
فزت له الكرافة من بعيد وأمره إنه يلبسها، فلبسها، ومن وقتها صاروا ينادوا له "أبو الكرافة".
تابع أبو مراد رواية الأحداث التي تعرض لها والدُه في ذلك المعتقل الرهيب خلال مئة وثلاثة أيام، كان عنوانها الأساسي "الكرافة".
قال: لما طلع الحاج سليم الوزوازي من المعتقل، زارنا في البيت، وحكى لنا كيف أن المختصين بتعذيب السجناء في باحة التنفس كانوا يتبايخوا عليه، ويقول واحد منهم للتاني:
- عندك أبو الكرافة.
ويرفسه، ويدفعه لقدام، ويتناوله التاني، ويرفسه ويقول له:
- ما بدنا توصاية، أبو الكرافة غالي علينا!
وبيرميه ع الأرض، وبينزل فوقه، وبيعجق عليه.. ويبقوا عم يتناوبوا عليه لحتى يمسحوا الأرض فيه. ولما يوزعوا الطعام عَ السجناء كان عنصر الطعام يزيد الكمية المخصصة إله، ويقول للسجناء:
- هذا صاحبكم أبو الكرافة حبيب قلبنا، لازم نميزه عن غيره ولو بلقمتين أو تلاتة.
ويتركه ويتابع عمله، حتى يصل إلى آخر المهجع، ووقتها كان ينادي لأحد المساجين ويقول له:
- هذا الحقير أبو الكرافة أخد لك حصتك!
ويرجع لعنده، ويرفسه، ويأخذ الطعام من قدامه، ويقله:
- عم تاخد حصص زملاءك يا عكروت؟ الله يلعن ناموسك!
ووقت وقف أبوي الله يرحمه، بعد 103 أيام، قدام رئيس الفرع، والطماشات على عينيه، قال له واحد من السجانين:
- يخرب بيتك شو حيوان! رايح تشتري سكر ورز وشاي، لأيش تلبس كرافة؟! والله لو أنك رايح بالزلط، وبالسيقان، كان أحسن لك! على كل حال هلق بدنا نطلق سراحك، مع أني تسلينا معك بهالفترة. المشكلة إنه شملك العفو اللي أصدره سيد رأسك القائد التاريخي الاستثنائي المفدى حافظ الأسد.. بالمناسبة، يا حمار، السيد الرئيس أحسن منك ومن كرافتك، بربك إنت مانك قليل وداد؟ أنت بتسب ع السيد الرئيس، وهوي بيعفي عنك!
بلع عبد الحميد الفارط ريقه، ووضع يده باللاشعور حول رقبته حيث تلتف عقد الكرافة التي أصبحت بنظره الآن مشؤومة، وقال:
- يا ساتر. كل هالشي صار مع المرحوم والدك؟ طيب، وبعدين؟ أشو صار؟
قال أبو مراد: لما رجع أبوي ع البيت كان تعبان ومقهور ومكسر. فتح خزانة تيابه، سحب الكرافات اللي كان معلقهن بالتعلوقة وقال لأمي:
- كبي هدول في الزبالة. يحرم عليّ لبس الكرافة بعد اليوم!
أمي ما كانت بتعرف أشو صاير مع أبوي في المعتقل، أخدت الكرافات وكبتهن في الزبالة، ولما رجعت عَ الأوضة كان أبوي مات!
تمتم الحاضرون بخشوع: دايم الله.
قال أبو مراد: لكن أمي، بعدما كبت الكرافات في الزبالة، خطر لها خاطر. كنا يوميتها عم تعزل الدار، وبعدما درجتْ السجادة الممدودة على أرض غرفة الجلوس صارت تدور على خيط لتربطها فيه، تذكرت الكرافات، راحت ع سلة الزبالة، وسحبت منها كرافة وربطت فيها السجادة. الكرافة نفسها هيي اللي هلق لابسها مرشحنا الجريء أبو أيوب!
(للقصة تتمة)