سيرة العقل والجنون (20)
في القسم الثاني من سهرة الإمتاع والمؤانسة، بعد أن أصبح أمامنا كأس من الشاي الخمير، استأنف أبو الجود سردَ حكاية الفتى المجنون خالد، الملقب "أبو الدكّ". قال ما معناه أن سبب جنونه في الأساس هو اهتمامه بالأناقة، إذ كان يحب الملبس الجميل، ويؤثر أن يكون شعره مسرحاً، ولكن والده لم يكن يختلف عن جلاد يعمل في فرع مخابرات، إذ كان يجرب البريم (العقال) بأجساد أولاده، ويستمتع بولاويلهم، وهذا، بحسب منطق أبو خالد، إجراء احترازي ضروري يجعل الولد يعد للألف قبل أن يطلب من والده نقوداً، أو ثياباً، أو مستلزمات ذات قيمة مالية.
أبو الجود: لو أبو خالد إنسان طبيعي، وطيب ومحترم متل كل هالناس، كان اشترى لابنه خالد قميص وبنطلون ومراية ومشط، وكانت القصة بتنحل بوقتها. لكن؛ لما أم خالد طلبت منه يشتري له تياب، ومراية ومشط، مد إيده باتجاه البريم وقال لها:
- الظاهر أنا نسيان خالد مدة طويلة بدون ضرب، ابعتي لي إياه لحتى أجرب هالبريم في لحمه.
خالد كان واقف على سور الدار، ولما سمع هالحكي بلش معه الجنون، نزل عَ الزقاق، وصار ينط وينزل ويصيح دك دك دك أبو الدكّ.. وراح ع حاكورة سليمان آغا، شاف بقية المجانين قاعدين هناك، وحجز لنفسه مكان للنوم ضمن الغرفة المهجورة اللي عاملينها متل غرفة نوم.. وبعدها صار ينزل كل يوم عَ القرية، ويدور في الأزقة، ولما يلاقي مياه متجمعة على شكل حومة كبيرة، كان يقرب وجهه منها ويتمرَّى على سطحها، ويبتسم.. وكان بهديكه الأيام شعره طويل، والغرة تبقى نازلة على عيونه، وكان يستمتع كتير لما يمد إيده ويرفع الغرة عن عيونه.
علقت أم زاهر: أيوه.. يعني كان مربي شعره ع الموضة.
أبو الجود: موضة؟ الله يسامحك يا أم زاهر، نحن في القرية، بهديك الأيام، ما كنا منعرف الموضة، ولا سامعين فيها، وأكتر رجال القرية كانوا يحلقوا شعرهم بالماكينة الناعمة أو الخشنة، لأن شعر الرجال لازم يبقى قصير.. لكن أبو خالد كان عنده ولاد كتير، وصار يحسبها، إذا كلما طال شعر واحد منهم بده يبعته ع الحلاق ويدفع عنه أجرة حلاقة، راح يكلفوه كتير، لذلك راح عند الحلاق أبو عبدو، اللي كان بوقتها جايب ماكينة حلاقة جديدة، وسأله عن الماكينة القديمة أيش صار فيها؟ رد عليه أبو عبدو وقال له إن الماكينة القديمة صارت متلّمة، ولما عم يحلق فيها للزبون عم تعلّق بالشعر وبتنتش وبتوجع الزبون. منشان هيك حطها في علبة الكراكيب عديمة النفع.
انبسط أبو خالد، فتح علبة الكراكيب، وشال الماكينة، وقال له: أنا بدي باخدها، بعد أمرك.
وجاب الماكينة ع الدار، وصار كلما قال له ولد (اعطيني أجرة حلاقة) يهجم عليه، ويسيطر عليه بإيديه ورجليه، ويحلق له، وخلال الحلاقة الولد يولول متل لما بيتعرض للضرب بالبريم، لأن الماكينة بتنتّش وبتقرّض الشعر تقريض. خالد تعرض للحلاقة من أبوه مرة واحدة، وتربى، صار يترك شعره طويل حتى ما يعلق تحت إيدين (الحلاق أبو خالد)!
أم زاهر: طيب يا أبو الجود، خالد صار يتمرى على حومة المي، ويسوي شعره الطويل.. وبعدين؟
أبو الجود: أنا تلاقيت فيه، بعدما جن بمدة قصيرة، وسألته:
- ليش عم تتمرى ع الحومة يا خالد؟
قال لي: منشان الدكّ.
- أشو هادا الدك؟
- أبوي هوي الدك. أنا إذا تزوجت وأجاني ولد راح سميه "دك"، على إسم أبوي، وبيصير إسمي أبو الدك.
- أبوك اسمه محمود، وبينادوا له أبو خالد، مين سماه الدكّ؟
- أبوي معه مصاري كتير، بس ما بيصرفها بيدكّها في المخدة. وكمان بيدكّ راسه في البريم، ولما بيوجعه راسه بيشيل الدك عن راسه وبيضربنا فيه. إذا قلت له اشتري لي بنطلون بيجيب بنطلوني العتيق وبيدك فيه أستيك وبيقلي البسه، وإذا تخت ياقة القميص بيدك أصابيعه فيها وبيقلبها عالقفا، وبيقلي صارت جديدة، دكيناها. واحد دكاك حاشاك يا أبو الجود.
كمال: أبو الجود عم يرسم جو روائي مدهش. عم يشتغل كمان على علم النفس، صور لنا "أبو الدك" على إنه في عنده نوع من النرجسية، بيحب يتفرج على وجهه من خلال موحات المي، بس ما عرفنا شي عن المشكلة اللي صارت بينه وبين بكار.
أبو الجود: والله يا أستاذ كمال أنا ما بفهم بالنرجسية وعلم النفس وكل هالقصص. اللي بعرفه إنه في الصيف ما في مطر. وما بتتجمع المياه في الحومات.. منشان هيك كان أبو الدك يتمرى في الصيف على الجباب (الآبار).. ومرة من المرات كان ماشي في زقاق بالحارة الشمالية، شاف ساقية مياه جارية، لحقها حتى وصل لمكان فيه موحة مي، الموحة سببها غسيل القمح قبل السلق، وهاي الشغلة أهل منطقتنا بيسموها: الصوالة. قَرَّب أبو الدك وجهه وصار يتمرى، ومد إيده على شعراته وصار يمسّدهم وهوي مبتسم، التفت، لقى بنت حلوة كتير اسمها "خيرية" عم تتفرج عليه، وكان واضح أنها معجبة بشبابه ورجولته. وقف وقال لها:
- خيرية؟ ما أحلاكي.. بدي أبعت أمي تخطبك.
البنت خجلت، ومشيت. صاح فيها (أشو قلتي خيرية؟ ببعت أمي؟)، التفتت عليه، كان وجهها صاير أحمر متل حب الرمان، وهزت رأسها يعني (يا ريت).. وهون وقع "أبو الدك" في مشاكل إلها أول ما إلها آخر.
حنان: طبعاً بده يوقع بمشكلة، لأن مستحيل الديكتاتور أبو خالد يوافق.
أبو الجود: أول مشكلة إنه كل أهل القرية بيعرفوا إنه خالد تارك بيت أهله (طافش) وعم ينام في البراري، وفي ناس كانوا يقولوا إنه خالد الحق معه لأن أبوه ظالم وما بينطاق، وفي ناس بيقولوا إنه مجنون، يعني إذا بيبعت أمه تخطب خيرية ممكن ما بيعطوه، لأنه مجنون، وتاني مشكلة إنه أبوه إذا عرف إنه أم خالد راحت خطبت له من دون علمه ممكن يضربها أو يطلقها، وتالت مشكلة إنه أبو خالد مو صحبة مع أبوها لخيرية، من مدة تزاعلوا وصار أبو خالد يسب على أبو خيرية.. لكن الشي الغريب إن أبو خالد ما كان مفكر بكل هالشي. أبو خالد كانت عنده مشكلة من نوع تاني.
أبو ماهر: شو هيي؟
أبو الجود: أنا شايف الوقت صار متأخر. بكرة منحكي فيها.
(للقصة تتمة)...