سيرة العقل والجنون (12)
لم يوافق "أبو خلو" على اقتراح ابنيه خليل وأحمد بأن يعاقب الفتى "فريد" بالضرب، فبرأيه أن الولد الذي يمكن أن يؤدبه الضرب هو الولد العاقل، بينما فريد مجنون بإجماع أفراد الأسرتين العائلية والمدرسية.. وقد شعر المدير علاء بالارتياح عندما أخبره أبو خلو بأنه يريد أن يسحب تسجيل فريد من المدرسة، لأنه هو الآخر كان يريد ذلك، بعد أن أصبح فريد عبئاً عليه شخصياً، وقد تناهى إلى سمعه أن مجموعة من معلمي المدرسة كانوا على وشك إعلام مديرية التربية والتعليم بأن في المدرسة ولداً مجنوناً مؤذياً يتستر عليه المدير، ولا يوافق على فصله.
أبو إبراهيم: فينا نقول إنه علاقة فريد بالمدرسة انتهت؟
أبو المراديس: من الناحية النظرية نعم، انتهت، لكن فريد مستحيل يمرر القصة على خير. في اليوم التالي عمل فصل تاريخي. بتعرفوا شلون تاريخي؟
أبو محمد: شلون؟
أبو المراديس: يعني تم تسجيله في تاريخ مدرسة عمر بن الخطاب، وفي تاريخ التعليم بمحافظة إدلب، وأطلق واحد من ظرفاء البلد على اليوم التاريخي اللي صارت فيه الحادثة "يوم التصوير الحديث". يا سيدي، التلميذ المعجزة "فريد" لما شاف إن رغبة أبوه بتبطيله من المدرسة اتحدت مع رغبة مدير المدرسة، صار متأكد أن عهده في التعليم بلغ نهايته، فكمد على فساد، وقرر يعمل للمدرسة حفلة توديع من نوع خاص.
حنان: بصراحة أنا صار عندي فضول لأعرف أيش عمل.
أبو المراديس: كانت الحقائب اللي ياخدوها التلاميذ معهم ع المدرسة، في هديكه الأيام، مصنوعة من الخشب والكرتون المقوى، وملبَّسة بالتنك. فريد، نام ليلتها نوم هادئ، والصبح خَلّى عيونه مغمضين لوقت ما تأكد إن أبوه وأخوه خليل وأخوه أحمد راحوا ع الفلاحة، وفاق، لبس الجاروخ الديري، وفتح الحقيبة المدرسية، فضاها من الدفاتر والكتب والأقلام، وحط جواتها الصباط اللي اشترى له إياها الأستاذ علاء، وتعربش ع الحيط، ونزل ع الزقاق بطريقة القفز المظلي، وبلش يطش بالجاروخ ويلولح بالحقيبة لحتى وصل ع المدرسة، وهناك، عالباب، كان الآذن أبو أيوب في قمة السعادة، وقف له بالعرض وقال:
- نعم؟ خير ان شاء الله يا سيد فريد؟
- بدي إدخل.
- خَيّط بغير هالمسلة. هاي المدرسة انساها. ممنوع. إذا بتشوف حالك في المنام داخل ع المدرسة لا تصدق. يا الله انقلع من هون. انقلع.
- في أمانة بدي أوصلها للمدير.
- ناولني إياها، أنا بوصل له ياها. لأن في نوعين من مخلوقات الله ممنوع يدخلوا على هالمدرسة. الكلاب وأنت!
- طيب. متلما بدك.
ومشي فريد بكل هدوء ورواق وثقة بالنفس لآخر سور المدرسة. علق الحقيبة بكتفه، ونط وتعربش ع السور، وخلال دقيقة واحدة كان جوة المدرسة. وراح مباشرة لعند المدير الأستاذ علاء، وقف قدامه بكل احترام، وفتح الحقيبة، وطالع منها الصباط وقال:
- أستاذ أنا بتشكرك. هادا الصباط أنت اشتريت لي ياه منشان المدرسة، وأنا هلق مفصول، ما بيحق لي ألبسه. بعدين أنا عندي جاروخ، الحمد لله، ربنا سبحانه وتعالى غامرني بفضله.
علاء: طيب يا فريد. أنا بحيي أمانتك. بتريد شي غيره؟
فريد: أستاذ كَلّا. بس اسمح لي أروح عَ الباحة في الفرصة، منشان أودع رفقاتي.
علاء: سمحت لك. الله معك.
طلع فريد من غرفة المدير بكل هدوء. كانوا تلاميذ المدرسة كلهم في الصفوف. مشي لآخر الباحة، شاف حجر كبير، وجنبه في حجر صغير. حط الحقيبة التنكية ع الحجر الكبير، وصار يخبطها بالحجر الصغير، لحتى صارت متل كأنها آلة حادة. ولما طلعوا التلاميذ ع الفرصة دخل فريد بينهم وصار يرقص وهني صاروا يصفقوا له، وطلع فريد بأغنية كانوا الناس يغنوها في سهرات البيوت منشان المزاح والضحك، بيقول مطلعها:
قام الدب لَيرقصْ
قتل شي سبعة أنفسْ
وصارت حفلة صغيرة ارتجالية، وتقريباً تلات أرباع تلاميذ المدرسة تجمعوا حول فريد. ولما تعب فريد من الرقص، توقف وقال:
- تعالوا بقى لناخد صورة تذكارية.
سأله أحد التلاميذ: في معك كاميرا؟
فريد: نعم. معي كاميرا. قرب لعندي حتى أصورك. يالله، سوي ياقة جاكيتك. ابتسم.
وصار فريد يوقف زميلَه بوضعية الجلوس عند المصور، ويطلب منه أن يبتسم، ثم يضربه على رأسه بالحقيبة التنكية المطعوجة، فيسبب له جرحاً يسيل منه دمه، ويقول له:
- صورتك. بكرة لما بحَمّضْ الصور بجيب لك صورتك!
وخلال خمس دقائق كان قد أنجز مجموعة صور إجرامية لتلاميذ أصيبوا بجروح وراحوا يبكون، وقد حدثت في المدرسة فوضى، ظهر على إثرها الأستاذ عبد الله قادماً من طرف الصف الأول، فاستقبله فريد ببشاشة وقال له:
- أهلين أستاذ، تعال أصورك!
فهرب عبد الله باتجاه الإدارة، ولعل عنصر الدفاع عن النفس قد دفع مجموعة من تلاميذ الصفوف العليا إلى تشكيل قوة صغيرة، هجموا على فريد، وألقوه أرضاً وأخذوا منه أداة الجريمة (الحقيبة/ الكاميرا)، ودفعوه بأيديهم وأرجلهم حتى أوصلوه إلى الباب الخارجي للمدرسة، وطردوه خارجها، وسط دهشة الآذان أبو أيوب الذي فوجئ بوجود فريد داخل المدرسة بعدما منعه من الدخول، وبعد قليل علم المدير الأستاذ علاء بما جرى، فخاف على التلاميذ الذين جرحت وجوههم، وأرسلهم إلى المستوصف القريب من المدرسة حيث ضمدت جروحهم، وعادوا وهم بخير، والحمد لله.. وقد عقد المدير اجتماعاً طارئاً لمجلس المعلمين، تباحثوا فيه بضرورة حماية أسوار المدرسة وزراعة أسلاك شائكة فيها لمنع نزول هذا النوع من المشاغبين.. وبعد قليل بدأ الجو في الاجتماع يميل نحو المرح والتنكيت، إذ رفع الأستاذ ظافر، معلم الصف الرابع يده، طالباً الإذن بالكلام، وحينما أعطي الإذن قدم اقتراحه بأن يتم تشكيل لجنة من معلمي المدرسة، مهمتها زيارة السيد أبو خلو، والد الطفل العجيب فريد، وتهنئته من القلب بمناسبة نبوغه في مجال التصوير الضوئي! وتقديم النصح له بأن يفتح له محل تصوير في البلد، شريطة أن يكون محل التصوير بجوار المستشفى، وأن ترابط سيارة إسعاف مجهزة بكل شيء أمام محل التصوير!