سيرة العقل والجنون (11)
الأصدقاء الذين يسهرون معنا بشكل يومي في مدينة إسطنبول أصبحوا متشوقين لمعرفة مصير الفتى المجنون المشاغب المؤذي "فريد ابن أبو خلو"، وقد تعاطفوا مع المدير علاء الذي أحرجه معلم الصف عبد الله عندما أخبره بحكايات كثيرة عن إبداعات فريد في فنون التعدي على زملائه، وتخريب الحالة التعليمية في الصف الأول.. وبما أن ما يجري في أحد الصفوف تتناقله ألسنة التلاميذ، فإنّ وجود فريد قد أشاع حالة البلبلة في المدرسة كلها.
كمال: قصة فريد اللي عم يحكيها أبو المراديس حدثت في زمن قديم، أظن أنه أواخر الستينات أو أوائل السبعينات، كانت عملية تَلَقّي العلم في مدارس هديكه الأيام بتشبه بيع البطيخ في سوق الهال.. عمي أبو محمد، أنت كان عندك دكان في سوق الهال بإدلب، وبتعرف أكتر مني بهالموضوع.
أبو محمد: نعم سيدي. البضاعة الكويسة كنا نسميها "ظَهْر حَلَب"، منعبّيها بصناديق خشب، أو بلاستيك، ومنشحنها عَ حلب ومنبيعها بسعر ممتاز، والبضاعة اللي بيسموها نخب تاني أو تالت كانت تنباع "مطابشة".. يعني منكومها ع الأرض، ومننادي عليها، ومنبيعها بدون وزن، ومنقول بعناها "شيلة بيلة"..
كمال: نعم، وعملية تعليم الولاد بهديكة الأيام كانت متل بيع البطيخ، فيها "ظهر حلب"، ومطابشة، وشيلة بيلة.. الآباء الفهمانين كانوا يبعتوا ولادهم ع المدرسة، لأنهم بيعرفوا قيمة العلم بالنسبة للمستقبل، هدول خلينا نسميهم "ظَهْر حلب"، وفي آباء بيبعتوا ولادهم ع المدارس من باب التقليد، أو الغيرة والحسد، بيقول الواحد منهم لنفسه:
- فلان قَيَّد ابنه في المدرسة، وأنا بودي أقيد إبني في المدرسة، وما حدا أحسن من حدا!
وفي أب بيكون متأكد من غباء ابنه، وإنه ما في منه أمل، ومع هيك بيبعته ع المدرسة، بيقول لحاله خلينا نضرب هالطينة بالحيط يا إما بتلزق بالحيط أو بتترك عليه أثر.. في المحصلة هاي الأنواع من التعليم بتشبه البيع (شيلة بيلة).. وأما بطل سيرتنا "فريد" فأنا شايف إن كل الحالات اللي عديناها ما بتنطبق عليه.
أبو المراديس: طبعاً ما بتنطبق عليه. العم أبو خلو سجل فريد في المدرسة من باب "كَسْر الفتنة" لأن أم خلو والبنات اللي عايشات في البيت زهقوا حياتهم من مشاغباته، ومع أن أم خلو متأكدة إنه الولد مجنون وافقت على تسجيله في المدرسة، قالت لحالها (بالخمس ساعات اللي بيمضيهن في المدرسة بصحا أنا على شغل البيت، والبنات بيشوفوا أشغالهم في تنجيد اللحف وصناعة الحصر وشغل الكنويشا بالمخرز). بعدين اتضحْ إن هاي الحسابات كلها خاطئة، لأن فريد تمكنْ، خلال مدة قصيرة، من خربطة نظام المدرسة، وصارت الشكايات تنهمرْ على المدير علاء متل زخ المطر، 90 بالمية منها تجي من الصف الأول، و10% تجي من تلاميذ الصفوف التانية اللي بيلتقوا بالصدفة مع فريد في الفرصة، وبيتعرضوا لأذاه ومزحاته الخشنة.
حنان: شوي شوي أستاذ. أنت حكيت لنا في السهرة الماضية عن اجتماع علاء بالأستاذ عبد الله، وقلت إن عبد الله حكى لعلاء قصص كتيرة عن فريد، لكن أحلى قصة هيّ قصة البلبل والقفص. هلق بدنا نعرف أيش تصرَّف علاء بعد كل شي سمعه من فصول السيد المحترم فريد..
أبو المراديس: علاء طلب من الولد المشاغب فريد إنه ينصرف من المدرسة، ويروح ع البيت، وقرر إنه يزور العم أبو خلو، المسا، بعدما ينصرف من الفلاحة، ويتفاهم معه منشانه. وإذا بتسمحوا لي هلق، راح أستبق الأمور وأحكي لكم عن الملحمة اللي جرت أحداثها في الدار. أبو خلو وخليل وأحمد رجعوا من الفلاحة، حطوا الدواب في الزريبة، وأجوا ع البيت، ولقوا قدامهم مفاجأة غريبة من نوعها. كان باب الدار مقفول. حاولوا يفتحوه، تبين لهم أنه فتحه مستحيل، لأنه صاير أقوى وأمتن من الحيط. صاح أبو خلو على طول صوته:
- يا أم خلو. يا بنات. ليش الباب مسكر؟ افتحوا لأشوف.
لم يأتهم جواب. اقترح أحمد على أبيه وأخيه أن يساعداه ليتسلق الجدار. ساعداه. تسلق ونزل إلى الدار. كانت الدار ساكنة، الباب الخارجي مغلق، وقد رُصفت أمامه حجارة إسمنتية مستطيلة "بلوك"، ورُتبت فوق بعضها البعض وكأن معمارياً محترفاً بناها. أحمد نادى أباه وأخاه طالباً منهما أن ينتظرا قليلاً، وبدأ بإبعاد البلوكات من وراء الباب، حتى تمكن أخيراً من فتحه. دخل أبو خلو وخليل.
من خلال عملية التفقد، تبين لهم أن البنات أقفلن باب غرفتهن من الداخل، وأم خلو محبوسة في غرفة الجلوس، والباب مقفل عليها من الخارج، وأما فريد فمختبئ فوق سقيفة المؤونة، وكأنه مجرم هارب من قوات الأمن. نادى أحمد على شقيقه خليل الذي سمع الصوت فصعد إلى السقيفة، تعاملا مع فريد وكأنه زنبيل، إذ أمسك كل منهما بإحدى أذنيه، وأنزلاه إلى الأسفل، وأجلساه أمام والده. وفتحوا باب غرفة البنات وغرفة الجلوس، واجتمعت الأسرة كلها، وبدأت المحاكمة.
سأله أبوه: ليش حبست أمك وإخواتك وسكرت باب الدار يا فريد؟
فريد: أنا ما حبستهن. أمي دخلت ع الغرفة، وقفلت الباب من جوة، وشلفت لي المفتاح من تحت الباب، وإخوتي البنات قفلوا ع حالن من جوة. وصاروا يقولوا لي سكر باب الدار هلق بيجوا. قلت لهن (مين اللي بدهن يجوا؟)، قالوا لي الحرامية. أنا فكرت إذا الحرامية كتيرين أنا لحالي ما بحسن عليهن، فجبت بلوكات وحطيتهن ورا الباب، إذا دفشوا الحرامية الباب ما بينفتح. هيك أأمن يا بابا.. صح ولا لأ؟
في هذه الأثناء، قرع باب الدار. أم خلو والبنات انسحبن، فتح خليل، فوجد الأستاذ علاء في الخارج. أبو خلو شاهده فاتجه يسلم عليه.
علاء: السلام عليكم. الظاهر أني جيت بوقت مو مناسب.
أبو خليل: بالعكس، جيت بوقتك. كنت بدي أنا أروح لعندك منشان أطلب منك نبطل فريد من المدرسة.
علاء: عن جد؟ والله أنا جاية لنفس السبب. لازم تبطله.
(للقصة تتمة)