سيارات سورية أسدية (12)

03 أكتوبر 2019
+ الخط -

المنطقة التي قطع فيها "أبو الجود" حكايته تشبه قطعات "شهرزاد" في "ألف ليلة وليلة"، بمعنى أنه اعتمد مبدأ التشويق الشهرزادي. والدليل، أن الحاضرين في جلسة "الإمتاع والمؤانسة"، بمجرد ما أحضر صاحب البيت إبريق الشاي والكؤوس، التفتوا نحوه، وسألوه عن تتمة الحكاية، وتفاصيل ما جرى معه حين كان يقود سيارته الشاحنة على الأوتوستراد الدولي، ووقع في قبضة دورية المخابرات، بالقرب من مدينة حماه.

قال أبو محمد مخاطباً "أبو الجود": أنا لهلقْ ما فهمتْ ليشْ وَقَّفُوكْ بهاي الطريقة الغريبة، انته قلت لنا إنه صاحبْ البضاعة المْحَمَّلة في السيارة "الحاج أحمد الفَتلة" اشترى الحديدْ المبرومْ بفاتورة نظامية من مؤسسة الأشغال العسكرية بدمشق، وقبلما تمشوا من المؤسسة أعطوكم ورقة تصريح مرورْ بين المحافظات موقعة من المدير العام.

قال أبو الجود: راح أشرح لك كل شي بالتفصيل. أنا، لما صاح فينا رئيس الدورية (قف)، والعناصر لقموا البواريد وأداروهم علينا، عِلِقْ لساني بسقفْ حلقي، وخَشَّبْتْ. ولما نزلنا من السيارة رافعين إيدينا لفوق، كنتْ بحاجة ماسة لزيارة أقرب "تواليت"، ومع هيك رفعت إيديّ ودرت وجهي عالحيط متلما طلبوا مني، لكن الحاج أحمد كان أشجع مني، رفض يدير وجهه على الحيط، وتوجه بالسؤال لرئيس الدورية، وقال له:
- ممكن نعرف يا أخ ليش وقفتونا ونزلتونا من السيارة؟ ترى نحنا مواطنين شرفاء، والحمولة تبعنا نظامية، وفي معنا أوراق بتثبت هالشي.


قال رئيس الدورية: اسماع انته يا أخ، بالنسبة لكونك انته وهادا الشوفير مواطنين شرفاء بحب أقلك (طزّ)، وبالنسبة للأوراقْ الثبوتية تبعك ناولني إياها تا أشوف.

الحاج أحمد ناوله الأوراق، وهوي نادى لواحد من عناصره وقال له: تعا ولاه حيوان أنت. قال العنصر: إئمور سيدي. قال له: خود هاي الوراقْ بتلزم لك لما بتدخل عالتواليت وبتعمل الكبيرة. العنصر أخد الأوراق وضرب رجله بالأرض وقال: حاضر سيدي.

قال كمال: أنا شايف الحكاية تبع "أبو الجود" بدها تصير ملحمة.
قال أبو الجود: أنا بحكي لك الشي اللي صار وانته سميها على كيفك، قصة، حكاية، نكتة، ملحمة... انت حر.
قال أبو جهاد: أنا كل شي بيحكيه أبو الجود بسميه "علاك".
قال أبو الجود: حتى إذا بتسمي كلامي علاك، أنا ما بتفرقْ معي. المهم، عناصر الدورية أجبرونا نترك سيارتنا المحملة بالحديد المبروم في مكانها على يمين الطريق العام، ورَكَّبُونا أنا والحاج أحمد في سيارة صغيرة، وأخدونا على بناء كبير ضمن مدينة حماه، ودخلونا لجوه، بعدين نَزَّلُونا على طابق تحت الأرض (قَبُو)، وفتحوا باب حديدي ودفشونا لجوّه، وإذ منلاقي حالنا بين مجموعة من الموقوفين، لاحظنا من خلال الشعر الطويل والدقون اللي مو محلوقة إنهم موجودين هون من شي عشرة أيام، أو أكتر أو أقل. 
قال أبو ماهر: أنا بْأَيِّدْ الأستاذ كمال، بالفعل هاي ملحمة، مو حكاية.
قال أبو الجود: الشبابْ المساجينْ صاروا ينظروا لنا نظرات غريبة، وبقيوا شي عشر دقايق ما يحكوا أي كلام، وفجأة تقدمْ واحدْ من الحاج أحمد وسأله:
- شو تهمتك؟
الحاج أحمد ما ردّ عليه. تقدم مني وقال لي: مرحبا يا أخ. هون أنا تخلصت من الخوف، وما عاد لساني ملتصق بسقف حلقي، وقلت له:
- لا سلام ولا كلام ولا حكي إذا ما بتضيفونا كاسة شاي.
كان الرجل عم يحكي معي وهوي مركّزْ بصرُه على علبة سجاير الحمراء الطويلة الموجودة في جيب كلابيتي. قال لي: منضيفك شاي بشرط انك تضيفنا سجاير حمراء طويلة.
المهم، بعدما الشباب عملوا شاي، وأنا ضيفتهم سجاير، سألونا: شو التهمة تبعكم؟ قال الحاج أحمد: والله يا شباب ما في تهمة ولا شي، لكن الظروف والمقادير كلفشتنا (يعني: أرسلتنا) لهون حتى نتعرف على هالوجوه النَيّرة!
وقبلما يكتملْ التعارفْ دَخَلْ عنصرْ لعندنا. أما شو عنصرْ؟ من دون يمين إذا بتخلطوا مع الحمارْ بتحتاجْ لربع ساعة حتى تعرف مين فيهمْ العنصرْ ومين الحمارْ. صاح: السائق عبد الجواد محمد المحمود. أنا استبشرت خير وسألته: إخلاء سبيل يا معلم؟ فصارْ ينهق ويرفع رجليه لفوق ويرفس في الهوا وقال لي: كول هوا وتعال معي. المعلم بيريدك.
قال أبو جهاد: بشرني، إن شاء الله حطوك في الدولاب؟
قال أبو الجود: لو حطوني في الدولاب ورفعوني فلقة أكيد ما راح يستفيدوا مني شي. لأنه ما عاد معلومات أعترف فيها، ولا بفهم بالسياسة، ولا حتى بالحديد المبروم. والظاهر إنه العنصر أحبني، وعرف إني من نفس فصيلته، والدليل إنه سحبني من يدي وقال لي: اسماع ولاه حمار! إنت شوفير وبتعرف تسوق كل أنواع السيارات. صح؟ قلت له: صح. قال لي تعال معي. وصار يمشي قدامي وأنا إمشي وراه لحتى وصلنا باب غرفة واقف قدامها تنين عساكر من نفس فصيلتنا. وهيك منكون وصلنا لمرحلة جديدة في القصة أو (الملحمة). بحكي لكم ياها بعدما نخلص شرب شاي.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...