سورية... من يعزي فاقداً عمن فقد؟
من يعزّي فاقدا عمّن فقد؟
هنا في إحدى قرى ريف اللاذقية المنكوب، عند الساعة الرابعة وعشرين دقيقة صباح يوم الاثنين 6 فبراير/ شباط، صرخ والدي: "يا أولاد هزة أرضية قوية... اهربوا إلى خارج المنزل".
بسرعة، خرجنا وبدأنا نتأرجح بقوة، ونحن نمسك بعضنا بعضاً، وفي هذه اللحظة، بدأ ولدي يوسف بالصراخ: "يا الله نحن نحبّك لا تموتنا".
في هذه اللحظات العصيبة، كان الطقس بارداً جداً، والأمطار غزيرة، والرياح شديدة، حيث دام الزلزال ثمانين ثانية، كانت بالنسبة لنا ثمانين دقيقة، ثمانين ساعة، وثمانين سنة. في ثمانين ثانية، قامت القيامة وحبست الأنفاس على صوت نباح الكلاب ونقنقة الدجاجات. في ثمانين ثانية، تغيّرت صورة المنطقة من منكوبة جرّاء الحرب إلى منكوبة ومقلوبة رأساً على عقب جرّاء الزلزال.
ثمانون ثانية، تجمعت الناس خلالها حول بعضها البعض، وظهرت عليهم علائم الخوف والهلع والحزن. ثمانون ثانية وهُجّرت الناس من منازلها أو دُفنت تحت أنقاض بيوتها. ثمانون ثانية، وحدثت هجرة من المدينة إلى الريف، وتحولت شوارع المدينة إلى مسكن آمن والسيارات إلى بيت دافئ، وبدأت سيارات الإسعاف تهرع لمساعدة من تبقى من الناس.
في ثمانين ثانية، تغيّرت صورة المنطقة من منكوبة جرّاء الحرب إلى منكوبة ومقلوبة رأساً على عقب، جرّاء الزلزال
ثمانون ثانية، غيّرت مسار وأحلام عائلات بأكملها، وتحوّل الإنسان معها من إنسان ميت بالأساس، يحلم فقط، بتأمين حاجاته للبقاء على قيد الحياة، إلى إنسان فقد أحد عشر شخصاً من عائلته، ويقول "كلهم بخير إلا أنا"، وللأسف توفي كمداً وقهراً.
طفل يصرخ من تحت الأنقاض: "شيلوني.... شيلوني....."، وطفل آخر يولد تحت الأنقاض، وأمه تموت من شدّة النزف، وطفل يرفعه رجال الإنقاذ نحو الأعلى وكأنه كأس العالم مع التصفيق، وأم تخرج مبتسمة، تحضن طفلها وتحميه من الأنقاض، وطفل عمره سبع سنوات، كتب وصيته قبل أن يسقط خزان الماء على بيته، يقول فيها:
الخط يبقى زماناً بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا
عريس يلقى حتفه هو وزوجته تحت أنقاض بيته الذي بناه بعد أن باع أرضاً ليملك بيتاً، ورجل إنقاذ جزائري ينادي طفلاً عالقاً تحت الأنقاض "يا بابا يا بابا.. لا تخاف".
أين الكلمات التي تعزّي وتطفئ نار القلب والفقد والألم، كما قال الشاعر إيليا أبو ماضي:
كل ما في الأرض من فلسفة لا يعزّي فاقداً عمّن فقد
نحن، أمام هذا الحزن الإلهي الذي يعمّ سورية منذ مرحلة ما قبل الزلزال، بعد عشر سنوات من حربٍ مدمرة، هجّرت البشر ودمرت البيوت وأخذت معها الآلاف من الضحايا؛ يأتي اليوم الزلزال، ليزيد الطين بلّة بانتقام الطبيعة عبر حركة تكتونية بسيطة، ولّدت كوارث طبيعية وبشرية.
وقد ظهرت تحليلات كثيرة للكارثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منها تحليل آيات قرآنية: (إذ زلزلت الأرض زلزالها..)، فسّرها البعث بأنّ الناس في حالة عقاب شديد ولديهم ذنوب ارتكبوها، ويجب أن يحاسبوا عليها لأنهم عاثوا فساداً... لقد جاءت ساعة الحساب.
وكان تفسير العالم المصري فاروق الباز، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، بتحليل الظاهرة على أنها طبيعية جداً، تحدث نتيجة تصادم الصفائح (الصفيحة الأناضولية والصفيحة العربية)، وهذا التصادم تنتج عنه الزلازل والهزات الأرضية، وطاقة هائلة تفرغ في قشرة الأرض وتؤدي إلى كوارث طبيعية وبشرية.
غالبية الأبنية التي سقطت على ساكنيها حديثة البناء، ويمتد عمرها الزمني من سنة إلى عشر سنوات
أما خبراء الهندسة المدنية، فيفسرون سقوط الأبنية أو صمودها ضد الزلازل باعتباره متعلّقاً بنوعية التربة والمواد المستخدمة في عملية البناء، وطريقة إنشاء البناء. والملاحظ أنّ غالبية الأبنية التي سقطت على ساكنيها حديثة البناء، ويمتد عمرها الزمني من سنة إلى عشر سنوات، حيث سمحت سنوات الحرب بظهور أبنية طابقية، بُنيت خلال وقت قياسي، بلا حسيب أو رقيب على كمية المواد أو الإسمنت المستورد، ودون سبر لأغوار التربة... وهذا الفساد الإنشائي أدى إلى كوراث بشرية.
وأخيراً، تكلم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، يصف الزلازل المميتة التي دمرت أجزاء من تركيا وسورية بأنها واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في عصرنا. فيما الأهم هو ما بعد الكارثة. ماذا سنقول للناس التي فقدت بيوتها أو الآيلة للسقوط؟ من سيؤمن لهم منازل جديدة؟ هل يستطيع المنكوبون شراء منازل بحكم أنّ أسعار العقارات بعد الحرب أصبحت فلكية؟
وللأسف، تأخر دور المنظمات الدولية والدول بالمساعدات الفورية المقدّمة لسورية مقارنة بتركيا، حيث كانت هناك جسور جوية توافدت على تركيا، وكأن قدرنا نحن السوريين أن نموت عفساً.
تعيش سورية اليوم لحظة حزن إلهية، حزناً على فقد أب وأم وابن وصديق ومدن وقرى ووطن؛ ويتم وفساد، ودمار وموت بشري وطبيعي. وكما قال أنسي الحاج: "استيقظي يا سوريا.. أنقذك الله يا سوريا".