سمر رمضاني إدلبي (7)

07 مايو 2020
+ الخط -
اغتيال سياسي داخل الميكروباص:

في الثمانينيات، وخلال أحداث الإخوان المسلمين، قويت شوكة المخابرات في محافظة إدلب على نحو مرعب، تحدثتُ، خلال لقاء الإمتاع والمؤانسة الرمضاني، عن إدلب بشكل خاص، لأنها كانت واحدة من ثلاث محافظات تعرضت للبطش الشديد من قبل حافظ الأسد، وارتكبت فيها مجازر كبيرة، وأعني محافظات حلب - حماه - إدلب. وقلت إن الناس كانوا يخافون من المخابرات ومِن كل ما له علاقة بالسلطة، فالذين وضعهم حظهم السيئ في طريق قافلة التهريب الخاصة بجميل الأسد، مثلاً، كانوا يخافون، لأن الشبيحة الذين يركبون السيارات يمتلكون الحق بالعدوان على الناس دون وجود مَن يحاسبهم.

أبو إبراهيم: طبعاً ما راح نرجع لحكايات قافلة التهريب التابعة لجميل الأسد، لأنها انتهت. بس أنا بدي إحكي قصة بتشبه قصة الشاب ابن قرية فريكة اللي حكينا قصته، وقلنا إنه بقي متخفي عدة سنوات خوفاً من بطش شبيحة القافلة.

أبو محمد: أنا دائماً برحب بالحكايات. تفضل يا أبو إبراهيم.

أبو إبراهيم: بهديكه الأيام صارت أكتر من حادثة، منها حكاية شاب من قرية صغيرة بجبل الزاوية اسمه "عبدو"، كان عبدو عاطل عن العمل متل صديقنا أبو الجود!

أم الجود: أيوه. الحمد لله، زوجي العزيز صاير مضرب مَتَل.

أبو الجود: أنا طول عمري مضرب مَتَل في الفقر وقلة الحيلة والنحس، والسبب هوي حضرتِك، لأنه المتل بيقول (إذا شفت من الزلمة العَجَب، بتكون مرته هيّ السبب)!
ضحك السامرون جميعهم.

أبو محمد: صار عمري 75 سنة وما سمعت بهيك مَتَل.


أبو الجود: بالفعل، ما في هيك مَتَل، أنا هلق ألفته. تفضل خاي أبو ابراهيم، احكي لنا عن هادا المنحوس عبدو.

أبو إبراهيم: عبدو عمل متل أبو الجود في معالجة النحس تبعه. راح طَلّع شهادة سواقة وصار شوفير.. وكان خاله أبو رستم عنده ميكروباص بيشتغل على خط (أريحا - إدلب) اتفق أبو رستم مع عبدو إنه يشتغل سائق على الميكروباص، واشتغل.

أبو جهاد: عظيم.. يعني النحس زال.

أبو إبراهيم: عبدو وأهله ومرته وأولاده كلهم اعتقدوا إنه النحس زال. بس المسكين بعدما اشتغل شي شهر ونص، صارت معه حادثة فظيعة. كان رايح بالميكروباص من إدلب على أريحا.. وبينما هوي عم يسوق الميكروباص بأمان الرحمن سمع إطلاق نار جوات الميكروباص، وصوت صراخ رجل عم يقول: آخ. قتلتني.. ارتعب عبدو، تطلع في المراية لقى واحد مسلح واقف وداير المسدس عليه وعم يطلب منه يوقف. وَقَّفْ طبعاً، ونزل المسلح وقال له:
- يا الله ولاك، امشي بسرعة.

مشي عبدو، وبعد شي ميتين أو تلاتمية متر حس إنه رجليه عم يرجفوا وما عاد قادر يضغط على دواسة الوقود، فوقف على يمين الطريق، وشاف بالمراية إنه في رجل مقتول والركاب وجوههم مصفرة والنسوان عم يبكوا بصمت.. ففهم إنه في عملية اغتيال وقعت في الميكروباص، وعلى الفور نزل من الباص وهرب بين أشجار الزيتون والكرز، وما عاد حدا يعرف وين صار.

أبو ماهر: طيب هوي أيش ذنبه؟ ليش يهرب؟

أبو زاهر: أنا فيني أجاوب أبو ماهر.. يا سيدي الكريم، أنا من خلال تجربتي الشخصية، وخبرتي الطويلة بنظام الأسد الإجرامي، ومئات القصص اللي سمعتها من زملائي المعتقلين في سجن تدمر، فيني أحكي لك شلون بيتصرفوا أجهزة الأمن بخصوص الحادثة اللي رواها أبو ابراهيم.

أبو ماهر: تفضل.

أبو زاهر: أول شغلة بتخطر في بالهم إنهم يجيبوا سائق الميكرو والمعاون والركاب. ولو كانوا بيستدعوا الواحد وبيطلبوا منه يوصف الحادثة متلما صارت وبعدها بيتشكروه وبيطلقوا سراحه كان السائق عبدو ما فكر بالهرب. ولا حتى خاف.

أبو إبراهيم: نعم. كلام أبو زاهر دقيق. وعلى حسب ما حكى لي عبدو (بعدما انتهت القصة) إنه في وقت واحد أجت تلات دوريات مسلحة على بيته، من الأمن السياسي والأمن العسكري وأمن الدولة، والكل طلبوا من زوجته تبلغه إنه يراجعهم في الفرع بأسرع وقت ممكن.

أبو زاهر: الشخص اللي بيجي ع الفرع بهيك حالة أول شي بينزلوه عالقبو، وبياكل القتلة، بعدين بيعصبوا عيونه وبيطالعوه لعند ضابط التحقيق، وخلال التحقيق أشو ما حكى بيقله المحقق: كذاب ولاك كلب حقير، اخراس يلعنك واطي.. وكل شوي بيهدده بإنه راح يرجعه لتحت عَ الدولاب.

ضحك أبو الجود وقال: ممكن هوي يقول الحقيقة والمحقق يقله كذاب وينزله ع القبو.

أبو إبراهيم: طبعاً، بس المشكلة إنه ما في حقيقة غير إنه كان عم يسوق الميكرو، وعيونه عالطريق، وسمع إطلاق نار.. يعني متلما حكيت لكم.. المهم إنه عبدو بيعرف كيف بيتصرفوا عناصر المخابرات، فخريط من شدة الخوف، ومن وصلته ع البيت أخد زوجته معه وطلعوا بين الكروم، أكتر من ساعة وهني عم يمشوا لحتى وصلوا لحافة الجبل.

وكان في صخرة كبيرة. وقف عبدو وقال لمرته إنه هوي راح يبقى في مكان قريب من هاي الصخرة.. وهيي لازم تزوده بالأكل والماء وترمس الشاي بعدما تتأكد إنه ما في حدا شايفها أو مراقبها، ووصاها إنه مهما كلف الأمر ما بتعترف لحدا بمكان وجوده.. وعلمها إنه لما بتوصل ما تنادي بإسمه، وإنما تعطيه كلمة السر اللي بيتفقوا عليها في كل زيارة.

وبقي الوضع هيك أكتر من شهر. عبدو متخبي في الجبال، ومرته عم توصل له الطعام والشراب والشاي. وأما صاحب الميكروباص الخال أبو رستم فكان على معرفة برئيس فرع الأمن العسكري، أخد له معه مواد غذائية من إنتاج جبل الزاوية، وحط له مبلغ كبير في مغلف، وراح يزوره. وخلال شرب القهوة اتفقوا إنه رئيس الفرع يبلغ الفرعين التانيين إنه راح يتولى هوي التحقيق بموضوع الميكروباص اللي تمت فيه عملية الاغتيال، وقرر إنه يفك حجز الميكروباص، ويسلمه لصاحبه، وبنفس الوقت بدأ بحل مشكلة ابن أخت أبو رستم، السائق عبدو. وقال رئيس الفرع لأبو رستم:
بس هادا ابن أختك عبدو ما بتنحل مشكلته لحتى يجي لهون. وما في داعي يخاف. أنا بعطيك ورقة بتوقيعي إنه لما بيوصل ع الفرع ما حدا بيزعجه أبداً. بيجي لعندي، مباشرة، وأنا باخد أقواله، وبيوقع عليها، وبيمشي من دون ما حدا يزعجه.

وبالفعل أجا عبدو عالفرع، وصارت معه مشكلة من نوع تاني منحكيها في السهرة الجاية.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...