سلاسل الإمداد وطرق الملاحة... كيف يظهر السودان أهميته؟
يتصوّر البعض أن عدم تدخل الفاعلين الدوليين، والولايات المتحدة خاصة، لإنهاء النزاعات المسلحة وإحلال السلام، يعني ضمنياً أن المنطقة أو البلد التي تشهد هذا النزاع ليست ذات أهمية للفاعلين الدوليين. وقد ذهب بعض المقتنعين بهذه الفكرة إلى أن السودان تنطبق عليه هذه الصفات لأن الولايات المتحدة لم تأخذ خطوة جدية لحسم الصراع أو ثني الأطراف المتورطة فيه. لكن الدول لا تكتسب الأهمية لذاتها، بل لما تقدمه للولايات المتحدة في خريطة التجارة العالمية؛ وهو ما يمكن تلخيصه في أمرين: السلع الاستراتيجية في سلال الإمداد، وسلامة الطرق الملاحية البحرية.
في ما يتعلق بسلامة سلاسل الإمداد، يمكن أخذ جمهورية الكونغو الديمقراطية مثالاً. تعد جمهورية الكونغو المنتج الرئيس لمعدن الكوبالت في العالم، بنسبة تقارب 70% من الإنتاج العالمي. ويعتبر الكوبالت معدناً استراتيجياً، يدخل في الصناعات الإلكترونية والدفاعية.
مع ذلك، لم تقدم الولايات المتحدة للتدخل بصورة فعالة لحل النزاع في الكونغو، لأن سلاسل إمداد الكوبالت مستقرة، ويتدفق المعدن إلى السوق العالمي بانسيابية رغم شبهات عمالة الأطفال وغيرها من الانتهاكات الإنسانية المرتبطة باستخراجه.
لكن، ومع ظهور الحرب الاقتصادية بين أكبر اقتصادين عالميين (الولايات المتحدة والصين)، ونظراً إلى أن الصين تعالج ثلثي خام الكوبالت عالمياً، وتنتج على إثره ثلاثة أرباع بطاريات الليثيوم عالمياً؛ تحركت الولايات المتحدة أخيراً نحو الكونغو.
وفي خطوة لا تتناسب مع دولة مدرجة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، دعت الولايات المتحدة الكونغو إلى المشاركة في مؤتمر الشراكة لأمن المعادن، وحثت حكومة الكونغو لإعادة التفاوض حول عقود التنقيب مع الشركات الصينية، ووقعت معها مذكرات تفاهم لتطوير سلاسل إمداد أسواق البطاريات بالإضافة إلى دعم فني ومادي.
في الحالة السودانية، لا يختلف الأمر عن الكونغو كثيراً. فبدل الكوبالت، يمكن وضع الصمغ العربي بصفته سلعة استراتيجية في سلاسل الإمداد العالمية. ينتج السودان حوالي 80% من خام الصمغ العربي عالمياً، والذي يدخل مادةً خاماً في إنتاج مستحضرات التجميل والمياه الغازية، والأدوية وغيرها. ولفهم أهمية الصمغ العربي عالمياً؛ كان السلعة الوحيدة المستثناة من العقوبات الأميركية التي فرضت على السودان منذ التسعينيات والتي استمرت إلى أكثر من عقدين.
ينتج السودان حوالي 80% من خام الصمغ العربي عالمياً، والذي يدخل مادة خاماً في إنتاج مستحضرات التجميل والمياه الغازية
ورغم أن الحرب الحالية، تشهد نشاطاً في نطاق الصمغ العربي بالسودان، لكن تقريراً حديثاً أصدرته صحيفة وول ستريت جورنال، كشف عن ميلاد أنشطة اقتصادية قادرة على المحافظة على استقرار سلاسل إمداد هذا المنتج. فقد كشف التقرير عن تربّح قوات الدعم السريع من تجار الصمغ العربي ومنتجيه بفرض رسوم خلال نقاط التفتيش، أو رسوم خدمات مقابل حماية القوافل التي تحمل الصمغ العربي، كما كشف التقرير عن تهريب المنتج إلى الأسواق العالمية عبر تشاد.
ولم تبد الشركات العالمية أي حرص لما يجري في السودان بقدر اهتمامها باستقرار وصول الصمغ العربي إلى مصانعها. حتى النشاطات الزراعية النباتية والحيوانية، المرتبطة بالأمن الغذائي، لم تدفع الأطراف المستفيدة منها للتدخل بحسم؛ إما لأنها خارج نطاق اعتداءات الدعم السريع مثل المشاريع الزراعية في نهر النيل والشمالية، أو لأنها تصل إلى السوق العالمية عبر التهريب مثل الماشية التي فقدت الدولة أكثر من مليار دولار من عوائد صادراتها.
في ما يتعلق بسلامة طرق الملاحة، فالأمر يتعلق بتأمين هذه الطرق من المهددات سواء أكانت قرصنة أم احتمالية وجود قوى مناوئة للولايات المتحدة والعالم الغربي في هذه الممرات الملاحية. رغم أن هاييتي قابعة تحت سيطرة العصابات، وهنالك ملامح انهيار للدولة وقد تخلف أزمة لاجئين، وأزمة أمنية للولايات المتحدة التي تبعد مئات الكيلومترات فقط من هاييتي، لكن الأولى لم تكن متعجلة في حسم هذه المهددات، بل تسعى لإيكال مهمة حفظ الأمن إلى أطراف أخرى مثل كينيا رغم تفاقم الأزمة؛ على عكس تدخلها السريع في البحر الأحمر على إثر هجمات الحوثيين التي خلقت اضطراباً في الممر المائي الذي يمر من خلاله أكثر من عشر التجارة العالمية.
بعد الانقلابات العسكرية، توقف الولايات المتحدة، بحسب قانونها، أي نشاط أو تعاون عسكري مع الدولة التي وقع فيها الانقلاب لحين استعادة النظام المنقلب عليه. هذا الأمر انطبق على دولة الغابون، التي وقع فيها انقلاب عسكري أطاح الرئيس علي بونقو. لكن المعلومات التي كشفت عن وعده للصينين بمنحهم إذناً لإقامة قاعدة عسكرية على ساحل المحيط الأطلنطي، جعلت الولايات المتحدة تشعر بالقلق من هذا المهدد لأمنها القومي؛ إذ بإمكان قاعدة كهذه تقليص المسافة للآليات الصينية في حال أرادت استهداف أميركا؛ لذلك انخرطت الأخيرة في محادثات مع السلطات الجديدة في الغابون بقيادة بريس نغويما، حول التعاون الأمني والعسكري، بل إن الولايات المتحدة لم تكتف بدعوة الغابون إلى المشاركة في المناورات البحرية المشتركة مع دول وسط وغرب إفريقيا؛ فقد قامت بتحديد الغابون دولةً مستضيفة لهذه المناورات للعام 2024.
أما ما يخص مسألة الوجود الروسي في السودان؛ فقد حاولت النخبة الحاكمة على الدوام النأي من علاقة كهذه، والجيش خاصة. ففي العام 2021، عندما أعلنت روسيا المصادقة على الاتفاقية مع السودان، خرج رئيس هيئة الأركان الفريق أول محمد عثمان الحسين، وهو قليل الظهور الإعلامي، ليعقد لقاءً تلفزيونياً مرسلاً عبره عدداً من الرسائل من بينها أن الاتفاقية في حاجة إلى مراجعة ولا يمكن المضي قدماً فيها من دون إجازة من المجلس التشريعي - في تصريح يمكن فهمه من رجل سياسة لا عسكري. هذا التماطل أقنع الاستخبارات الأميركية بعدم رغبة السودان في التعامل مع الروس، حتى بعد تصريحات كل من أعضاء مجلس السيادة ياسر العطا ومالك عقار حول منح روسيا نقطة تزود على ساحل البحر الأحمر، تم كنسها بالتصريحات المترددة للمسؤولين السودانيين على هامش منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي، والتي بدت مهادنة، وتسعى لاسترضاء الولايات المتحدة قبل الخوض في أي شراكة مع الروس؛ مما يجعل الأميركان مطمئنين إلى أن الممر الملاحي المهم لن يحضر على سواحله الروس، ولو إلى حين.
السودان دولة مهمة، من حيث الموقع والموارد، لكن ما دامت منتجاته المؤثرة على سلاسل الإمداد العالمية قادرة على الوصول إلى الأسواق العالمية في ظل استمرار الحرب، وما دام أن السودان عاجز عن الاستفادة من موقعه الجغرافي في أحد أهم الطرق في خريطة الملاحة العالمية؛ سيبدو السودان دولة غير مهمة.