سقطت الراية.. عبد العزيز المقالح وداعاً

14 يناير 2023
+ الخط -

حين قالوا: رحلت عن الأرض

أمسكت من هلعي بالفراغ

ظننت الفراغ أبي

والدخان زميلي

وصلّيت حتى أتى النوم

كيما أراك

وأسمع صوتك

أقرأ- في غفوتي- ما تيّسر 

من رعشة الخوف

أغسل دمعي برائحة الياسمين..

هل من مرثية تلامس الوجدان يمكن قولها كتلك المقطوعة الشعرية التي كتبها شاعر اليمن ومفكرها الراحل، عبدالعزيز المقالح، لأستعيرها في رحيله؟!

الشاعر/ الوطن الذي أحدث رحيله فجوة كونية في غور وطننا المذبوح، تاركاً الساحة الثقافية (التي كان أهم وتدٍ فيها) تنهار. ليس فقط لأنه كان من أهم الشعراء والأدباء والشخصيات الاعتبارية التي عرّفت باليمن وأدبه وثقافته في الخارج؛ بل لأنه، أيضاً، امتاز عن الشعراء العظماء الذين جايلوه، بأنه كان يمثل أباً حقيقياً لأي أديب جديد، أو كاتب مبتدئ.

لم يتملّص مرّة من مقابلة أي شخص يوّد أن ينهل من خبرته وآرائه ونصائحه. كان القِبلة الأهم لأجيال مضت، والكاتب الأول لمقدمات دواوين الشعر وكتب السرد، وأعمال الأدب عامة، للأدباء المتمكنين، وحتى أولئك الجدد في إصداراتهم التجريبية الأولى، وذلك على الرغم من كلّ انشغالاته وقراءاته، إلى درجة يصعب معها أن تجد أديباً يمنياً ظهر في العقود الأخيرة لم يقابله أو يتحدث معه أو يعرض عليه كتاباته ويستمع إلى ملاحظاته عنها. ولهذا السبب، واجه لوماً من الأدباء والأكاديميين المعاصرين له حين عدّوا فعله هذا تشجيعاً على إنتاج أدب دون المستوى الأدبي في مقاييسهم، فكان رده أن تشجيع الكُتّاب المبتدئين واجب أخلاقي وأدبي، وقد يحفزهم هذا لبذل جهد أكبر في تطوير مواهبهم وصقلها، وفي النهاية سيكون الحُكم للقارئ، والجيد والموهوب سيطوّر ملكته ويستمر.. وبهذا، تدفق للساحة الثقافية الكثير من الأدباء؛ شعراء وساردين خلال العقود الأخيرة. وفي النهاية، صدق "المقالح" وسقطت كلّ مقاييسهم!

وحينما حصل على جائزة أدبية كبيرة في العام 2010، قرّر أن يطلق جائزته للأدباء اليمنيين في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية، قائلاً: "حينما استملت الجائزة قسّمت المبلغ إلى نصفين؛ نصف وزعته بين أبنائي في البيت، والنصف الثاني جعلته من نصيب أبنائي في الأدب عبر هذه الجائزة!".

مع رحيل المقالح، توارت الحروف خجلى أمام الكتابة عنه، وانحنت الهامات عجزاً عن حمل الراية التي رفرفت عقوداً في يده

ذلك هو الأستاذ/ الشاعر/ الإنسان/ الأب عبد العزيز المقالح، الذي حين ترجل وغادر دنيانا توارت الحروف خجلى أمام الكتابة عنه، وانحنت الهامات عجزاً عن حمل الراية التي رفرفت عقوداً في يده، ليحدث هذا الفراغ العميق في الساحة اليمنية، والعربية عموماً؛ فهل من أديب صغير أو كبير سيرثه ويحمل من بعده تلك الراية؟! ويكرّر ترديدنا لرائعته:

سنظل نحفر في الجدار..

إما فتحنا ثغرة للنور

أو متنا على سطح الجدار..

أخيراً: فلنحمل ولو قبساً بسيطاً من نوره لنضيء به ما تبقى من أحرفنا، ونعتق به الأجيال القادمة إلى عصور يحتويها الظلام! ولنردّد معه في رثاء صديقه جارالله عمر، من ديوان "كتاب الأصدقاء":

آه يا صاحبي..

لم أجئ لوداعك 

أو لمديح خصال 

لكنني جئتُ أبكي المحبة والشعر

لمَّـا رحلتَ تخثرت الكلمات

تبدل ماء الحروف

وفاض دماً

وكعادته -حين يحزن-

أخفى انكساراته الشعر

وأرى عيون قصائده

في جفون الملائكة النائحين!