سراج الدين وكيس القمح

27 ابريل 2023
+ الخط -

"كل النساء اسمهن زاد الحسن، وكيس القمح خلف الباب".

كتبت هذه الوصية ودُقّت على لوح خشبي ولفّت بشال من الحرير، ثمّ وضعت في صندوق مزخرف إلى جوار وثيقة تحكي شجرة العائلة من أيام نوح عليه السلام، وحتى يوم الحديث.

ما إن تدخل إلى البيت حتى تضيع في دوامة جمالية خالصة، الجدران الممتلئة بالزخارف والنقوش، الأعمدة والأقواس، تفاصيل الزوايا، الشبابيك الخشبية المحفورة، الزجاج الملوّن، القناطر، النباتات في كلّ مكان، الحديقة الواسعة المكللّة بالشمس، بركة الماء في الوسط، الأزهار والأشجار على الحواف، كلّها تحكي أنّ هذا البيت سهوة جمالية غير مدنسة، فتشعر فيه أنك في قصر مسروق من قصور سليمان.

توارث أهل هذه الدار كراهية التغيير العمراني الذي غزا المدينة، الجدران الصماء، توفير المساحات على حساب الجمال، اختصار التفاصيل، تكديس البيوت بعضها فوق بعض، غرف أشبه بالعلب، وحتى الزخارف الجاهزة التي صنعتها الآلات، والتي لا ترى فيها روحاً ظاهرة ولا نفساً حياً. ومع ذلك تسلّلت بعض التفاصيل إلى هذا البيت بالإكراه، يمكنك إدراكها بسهولة متى دخلت... كنقاط غريبة في بحر من الصفاء.

استيقظت... أحسست بتنميل في جانبي الأيمن، نظرت إلى جهة النافذة، كانت الشمس قد أكملت تدوّرها وعلت. خفت، لقد تأخرت، الآن أفهم سبب تنميل جانبي، لقد كان عليّ أن أوصي زاد الحسن بإيقاظي، ولكن لماذا لم تفعل؟ هل علي دائما أن أنبهها؟ لقد تأخرت، تأخرت كثيرا، أف لك يا زاد الحسن.

قام سراج الدين من فراشه، أحسّ أنّ هناك شيئاً غريباً في الغرفة، لا بد أنّ زاد الحسن قد قامت ببعض التعديلات، لكنه ككل رجل، لا يفطن سريعا لإدراكها، يحتاج عقله إلى مدّة للملاحظة. عليه أن يجمع الصور القديمة والحديثة للمكان ثم يعيد مطابقتها بدقة وترو ليدرك ماذا حدث. لا وقت الآن للتفكير والتقدير، ثمّ لا بد من الخروج سريعاً وإتمام المهمة، فهو من الخاصة الذين استؤمنوا على هذا الأمر، ولذلك لا بد له أن ينفذه بسرعة، ومن دون أخطاء.

- صبحك الله بالخيرات يا زاد الحسن.

تحجرت زاد الحسن في مكانها، وكأنّ صاعقة مرّت في جسدها وشلّته عن الحركة. شعرت أنّ كلّ خلية من خلاياها تهرب في اتجاه، التفتت بهدوء شديد، وبالكاد كانت تلتقط أنفاسها، نظرت في وجه سراج الدين وظّلت جامدة، وكأنها تحوّلت إلى صنم، حتى عيناها جحظتا وتوقفتا عن الرمش، وبسرعة خارقة بدأ عقلها يحلّل الأمر. لقد كانت تتدرب على هذه اللحظة منذ ولادتها، سيستيقظ سراج الدين وعليك أن تمهدي له الأمر، استعادت "زاد" وعيها بسرعة، عقلها كان يقول لها: "هيا ارجعي لا وقت لديك".

تزوّج سراج الدين زاد الحسن بعد أن أتمّ عامه العشرين، ويومها كان عمرها لا يزيد عن ستة عشر عاما. ولدت له يسر وحمزة. كان للصبيين فأل حسن على العائلة، فما إن مضى أسبوع على ولادة يسر حتى استدعي سراج الدين لتسلّم وظيفة مهمة، عاشت بفضلها العائلة في خير حال إلى أن جاء اليوم المشؤوم.

قامت ببعض التعديلات، لكنه ككل رجل، لا يفطن سريعاً لإدراكها، يحتاج عقله إلى مدّة للملاحظة 

- صبحك الله بالمسرات يا سراج الدين، كيف كان نومك؟

- الحمد لله نمت جيدا، ولكنني أحسّ بتنميل في جانبي، أعتقد أنني نمت زيادة، ليتك أيقظتني باكرا يا زاد، تعلمين أنّ لديّ عملاً مستعجلاً، أخاف أن أتأخر وتنالني عقوبة، تعرفين أنني أحمل حقوقاً في عنقي ولا ينبغي لي أن أتأخر، أرجو أن يمرّ الأمر على خير.

-لا عليك يا سراج، ما زال الوقت مبكراً، ولقد طرأت بعض التغييرات، لذلك لا داعي للعجلة.

- تغييرات؟ ماذا يا زاد؟

- لا عليك. سأحكيها لك. ولكن الآن تعال واجلس وتناول فطورك، لا بد أنك جائع جدا.

- نعم والله يا زاد، أحسّ وكأني لم آكل شيئا من مئة عام. وضحك سراج الدين لذلك التخيّل.

كانت زاد تنظر إليه، لم يلاحظ أنها ليست زاد، أيعقل أنها كانت تشبهها إلى ذلك الحد؟! حتى أنّ سراج الدين لم ينتبه إلى الفرق بينهما، أيعقل أن تكون الجينات الموروثة قوية إلى هذه الدرجة؟

كانت زاد تحاول أن تفصل بين حركات جسمها وعقلها، كانت تطرح العديد من التساؤلات في خاطرها، أما جسدها فثابت يجهز الإفطار بروية وإتقان. كانت تفكر أنّ عليها أن تمنعه من الخروج من المنزل، ليكون لديها الوقت الكافي لتمهد له القصة وتخبره بها بهدوء تام، لا مجال لخسارته الآن.

تناول سراج الدين طعامه بشراهة وبتلذّذ، كانت زاد تنظر إليه، أيعقل أنّ الطعام لم يتغيّر أيضا؟ ألم يلاحظ أي فرق في النكهات؟ في الشكل؟ في طريقة التقديم؟ هل الرجال كلهم هكذا؟ ليست لديهم القدرة على ملاحظة التغييرات في المظهر الخارجي، في ترتيب البيت، في أشكال البشر، ولكن حتى حليماتهم الذوقية، هل يعقل أنها هي الأخرى، واقفة عن العمل؟

هل الرجال كلهم هكذا؟ ليست لديهم القدرة على ملاحظة التغييرات في المظهر الخارجي، في ترتيب  البيت، في أشكال البشر!

أنهى سراج الدين طعامه، وعلى عجلة طلب من زاد أن تجهّز له ثيابه للخروج، حاولت أن تلهيه لتصرفه عن ذلك، وهو يجادلها بابتسامة ظاهرة على وجهه. ولكن فجأة، سكن، وكأنه انفصل تماما عنها وبدأ شعور غريب يتسلّل إليه، ثمّة شيء ما مفقود، شيء مهم لا يجده ولكن ماذا يكون؟ 

انصرف عن زاد الحسن في تلك اللحظة، وكأنّ جنّا لبسه، فصار يتجوّل في البيت، باحثاً بلا وعي عن الشيء الغائب. لم يكن شعور سراج الدين مادياً تماماً، لذلك لم يلتفت إلى كلّ الأشياء الجديدة التي صارت في البيت، كان يشعر بخواء ما، وكأنّ شيئا انتُزع من قلبه، كان يحسّ بالخسارة، بالفقد.

في هذه الأثناء كانت زاد الحسن تتجهّز للأسئلة التي سيبدأ طرحها، وكلما مرّ سراج الدين بشيء حديث، كانت تتأهب. ولكنه كان في شرود تام عن كلّ هذا، بدا وكأنه يتتبع خيطاً ما، شيئاً محدّداً تماماً. مرّ بجوار الصندوق الخشبي وصارت يده تمسح أصدافه بلطف وحب. فتح الصندوق وزاد الحسن وراءه تراقبه في خوف شديد. أخرج الصحيفة وشمّها ثم فتحها، كان يحب أن يفعل ذلك دائماً، كان يفتخر بأنّ نسبه محفوظ، أنّ عائلته ذات أصول عريقة مثبتة. كان كثيراً ما يخرج الصحيفة في حضور الناس، ليقرأ عليهم أهم الأسماء التي ذكرها التاريخ من عائلته، فيذكر لهم اسم الشخص وأبيه وأمه وجده وأولاده وأحفاده. وما إن صارت الصحيفة مفرودة تماماً أمامه، لاحظ أنّ الشجرة صارت أكبر وأوسع مما يذكر، أسماء كثيرة أضيفت، واسم زاد الحسن يتكرّر بشكل لامنطقي. التفت إلى زاد الحسن، وقد اكتسى وجهه غرابة فريدة.

نسيت زاد الحسن كلّ المقدمات التي لطالما حفظتها، أحسّت بالعجز يتسلّل إلى لسانها ويعقده، لم تجد أيّ كلام يمكن أن يقال، كيف يمكن له أن يصدق أنه نام كلّ ذلك الوقت، كيف ستقول له إنها ليست زاد الحسن زوجته؟ كيف ستشرح له ذلك التمدّد في الشجرة؟ لقد تبخر كلّ شيء من رأسها، كانت صامتة، باردة، وكأن روحها قد سحبت منها.

هكذا هي الحياة، كلّ الأشياء النظرية التي نتعلمها، كل التجارب المحكية، كلّ الخرائط المرسومة، تتلاشى عندما يقف الإنسان وجهاً لوجه مع التجربة

"قولي شيئا يا زاد، أيّ شيء". صارت تردّد ذلك في رأسها وسراج الدين ينظر في عينيها، ذاهلاً عنها، وهي صامتة لا تستطيع النطق. فجأة تلاشى منها كلّ شيء. هكذا هي الحياة، كلّ الأشياء النظرية التي نتعلمها، كل التجارب المحكية، كلّ الخرائط المرسومة، تتلاشى عندما يقف الإنسان وجهاً لوجه مع التجربة. هنا لا يستطيع إلا أن يكون هو بتكوينه الخاص، بما بني فيه وتمتّن. لم تكن زاد الحسن تعرف شيئاً عن سراج الدين بالمعاينة، كلّ معلوماتها وصلت إليها بالتعاقب من جيل إلى جيل، لم تتوّقع أن يستيقظ في عهدها، لقد نام كلّ هذا الوقت، أيعقل أن يستيقظ الآن في حضرتها؟ توقعت أن تأتي إلى الدنيا وترحل، والجسد ذاته ممدّد على السرير نائم، ربما لأجل ذلك، كان كلّ شيء في ذاكرتها كلام منقول احتفظت به من باب الأمانة لتحمله إلى أولادها. لم يغادر قشرتها المخية، ولم يستقر في نفسها، لم تتخيّل أنها ستحتاج لاستخدامه يوماً، لذلك بمجرّد ما وقفت مع الحدث وجها لوجه انسحب منها واختفى.

قطع سراج الدين عليها تفكيرها، كان يعلم أنّ شيئا عظيما قد حدث، شيء يحتاج إلى شرح طويل، ولكن تفكيره الآن مركز على إتمام المهمة، سيتمها ويعود إلى زاد الحسن لتشرح له كلّ شيء.

لبس ملابسه دون استعانة بها، ومضى يريد الخروج. كان للمنزل بابان، الأول داخلي يفضي إلى الغرف والثاني خارجي يفضي إلى حديقة البيت المكشوفة للشمس. غادر سراج الدين البوابة الأولى، وقد حمل كيس القمح على ظهره وزاد الحسن وراءه ترجوه كي لا يخرج، وتخبره عن الريح السوداء التي طوّقت المدينة، وهو لا يلتفت إليها ولا ينثني، لاحظ الظلمة في الحديقة، أحسّ بانطباق نفسه فيها، أحسّ بها ضيّقة خانقة، رفع رأسه إلى السماء فلم يرها، ومع ذلك لم يلتفت ومضى عابراً البوابة الكبيرة للبيت العتيق لينجز المهمة.

وقفت زاد الحسن على الشباك تراقبه، رأته واقفاً، جامداً، صامتاً، يقلّب نظره في المكان وفي الوجوه، وكأنه لتوه قد أدرك، بعد ذهول طويل.. فتح كيس القمح وأخذ يرشه على العابرين. صار يمشي، ويرش القمح مع كلّ خطوة، ثم هبّت ريح سوداء حملت سراج الدين معها واختفت.

سراج الدين كان في غيبوبة طويلة، آخر شيء يتذكره أنه أُعطي كيساً من القمح وأمر برشه على سفح الجبل بأمر من الخليفة.

دلالات
ألاء عبد العليم
آلاء عبدالعليم
مدونة وعملت كمدرسة. تقول: "ألجأني اللجوء مرّة ثانية إلى بلاد جديدة. منذ ولادتي وأنا أرتحل، كالسائر على الماء، لا يدري متى يجد أرضا ثابتة ينشر بها جذوره، ولا تزال الرحلة مستمرة". وتعبّر عن نفسها بالقول "تائه لا يدري أيّ السبل أرشد".