سجن صيدنايا وركوب الترند

19 ديسمبر 2024
+ الخط -

مضى على وصول الثوّار إلى سجن صيدنايا وتحرير السجناء منه أكثر من عشرة أيّامٍ، وما زالت مواقع التواصل الاجتماعي تغصّ بأخبارٍ عن وجود طوابق تحت الأرض وغرف وزنازين سرّية وممرّات مخفيّة لم يجرِ التوصّل إليها بعد. وكان آخر الأخبار وصول منظمة آفاد التركية لإجراء مسح، بحثًا عن تلك الزنازين المزعومة. ولم ينفع تأكيد رابطة "معتقلي صيدنايا" و"الدفاع المدني" الذي أجرى مسحًا شاملًا للسجن على بطلان تلك الأخبار والمبالغات دون التثبّت من صحتها، حيث تحول الحدث إلى ترند يركبه كلّ ساعٍ لحصد التفاعل على منصّات التواصل الاجتماعي، حتى وإن كان استغلالًا لا أخلاقيًا للحدث ومتاجرة في الأمل الذي تأبى قلوب المكلومين من أهل المعتقلين وذويهم أن تكذّبه.

ترند سجن صيدنايا لم يعد حكرًا على الإعلاميين والناشطين، بل بات بإمكان أيّ "مشهور" أو "مؤثّر"، أو ساعٍ لأن يكون كذلك، أن يشارك في حملة الصراخ تلك طمعًا بحصد التفاعلات والتكسّب المادي من ورائها. وفي جولةٍ سريعة على المنصّات، ستجد أنّ معظم صفحات الباعة والطباخين والمطربين والرياضيين... وجميع ما حوت الفضاءات الرقمية من رجال ونساء، تضجّ بالمواد المرئية والمقاطع عن سجن صيدنايا مع الوسوم والهاشتاغات اللازمة. 

ملأ الصراخ والانفعال الزائد، والدرامي أحياناً، الفضاء العام، حتى صار تيمة مميّزة لكثيرٍ من "الناشطين"، حيث تظهر مواد العبث في أجواء عالية من الحماسة والثورية، محمّلةً بلغةٍ هجوميّةٍ استباقية لكلِّ من يتقاعس عن المشاركة والنشر أو يدعو إلى العقلانية والتثبّت من صدقيّة ما يُشاع من أخبار، مع تسفيه لأيّ انتقادٍ يُوجّه لهذا التهريج الصاخب الذي يتبنّى قيم العدالة ومساعدة المظلومين، إلى حدّ التطرّف، مع عدم الالتفات إلى ما يساعد في ذلك حقًا، مثل تأمين الوثائق والسجّلات التي تعرّضت للتخريب والإتلاف والسرقة بسبب الفوضى التي عمّت، والتي، عبًثا، أُطلقت نداءات للحفاظ عليها وحمايتها من قبل منظمات حقوقية وبحثية من دون أن يسمعها أحد، فضجيج الترند وشهوة الشهرة كانا أعلى منها.

لسنا بحاجة إلى اختلاق القصص والفبركات والمبالغات التي يتوهّم البعض أنها تفيد في تبشيع صورة النظام

تفتح هذه الموجة من التغطية الإعلامية الباب واسعًا أمام أسئلة المهنية الصحافية، التي شهدنا في ما جرى، مثالًا على التهاون بها من قبل كثير من الجهات الإعلامية المُعتبرة. وأيضًا أسئلة المسؤولية الأخلاقية أولًا وقبل كلّ شيء، وآليات العمل التوثيقي والحقوقي، التي لا يقيم ركاّب الترند لها وزنًا ولا يعبأون بجهود سنين مُضنية من البحث والتحقيق التي بذلتها وتبذلها جهات وشخصيات كثيرة. 

لقد بلغ نظام الأسد أوج التوحّش والإجرام وبزَّ الجميع في ذلك، وما ثبت ووُثّق من جرائم جسيمة ارتكبها النظام بحقّ الشعب السوري وبحقّ شعوب مجاورة، كافٍ لتبيان فظاعته وساديته، ولسنا بحاجة إلى اختلاق القصص والفبركات والمبالغات التي يتوهّم البعض أنها تفيد في تبشيع صورة النظام، في حين أنها تضرّ بعملية إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها وتحقيق العدالة بمحاسبتهم.

من حقّ الآلاف ممّن فَقدوا أرواحهم وسنين عمرهم وهم مغيّبون في الظلمات أن يجري التعامل بمسؤولية مع مسارح الجرائم التي فقدوا أرواحهم وأعمارهم عليها، والتي شهدت صنوفًا من العذاب، وأن لا يعبث بها ويبتذلها كلّ مبتغٍ للشهرة وجامع للصور التذكارية. كذلك إنّ بناء سردية صحيحة وموثّقة لجميع ما جرى من عمليات إجرامية، والسعي لمحاسبة مرتكبيها وتحقيق العدالة، مسؤوليتنا جميعًا أمام أنفسنا أولًا، وأمام عشرات الآلاف من الشهداء ثانيًا، وذلك أقلّ ما يمكن أن يقدّم إليهم كي ترقد أرواحهم بسلام.   

مدون ومدرس ومدّقق لغة عربية
جودت فلاحة
مدوّن سوري ومدرّس ومدقّق لغة عربية.

مدونات أخرى