زلزال أم احتضار هذه المدينة؟
منذ قليل سمعت سيدة تصرخ في الطريق، كان صوتها يشبه بوق إسرافيل، بوق القيامة. لم يكن متوسلاً، إنما مطالباً بإصرار، مع ذلك لم يستمع إليها أحد. كان المارّة يتجاوزونها، كلٌّ إلى جهته دون أن يلتفتوا. كانوا متعبين، وكلُّ منهم يفكر بالانضمام إليها ليصرخ ويستجدي.
عمر هذه المدينة ثمانية آلاف سنة، ويبدو أنها تعبت من ابتذالنا ونفاقنا، من ضعفنا وجبننا، ونحن لم نفهم بعد.
كيف لا نستوعب مشاعر مدينة شوّهنا وجهها، حطمّنا أيقوناتها، أحرقنا أشجارها، وصلبنا أطفالها المدلّلين بالجوع والحرمان والتوّحش؟ فيما تُحاك، في الظلام المفروض قسراً على لياليها الشتوية الطويلة، الجرائم الكبرى بدم بارد.
وقبل إغماض الأعين، تفكّر الأمهات ببيع خاتم الزواج الذهبي وآخر ذكريات شبابهن، فيما يفكر الآباء ببيع البيت الذي يؤوي العائلة لتوزيع ثمنه على الأبناء، ويفكر الصحافيون ببيع القلم الذهبي الذي أهدي إليهم بمناسبة تقاعدهم، ويفكر العسكري ببيع نياشين بطولاته. لكن، يصحو الناس ليجدوا أنّ ما يعرضونه للبيع، ليس له قيمة في سوق منهك، استُنفد رأسماله.
الضربات الكبرى التي لم تقتل الناس لم تجعل أحداً أقوى، فالناجون يعانون من الخوف، يتوقعون ضربة جديدة كلّ صباح، يتعايشون مع فقدانهم الأمان بفقدان الإيمان وفقدان الثقة بأيّ شيء.
ويبدو أنّ أمنا الطبيعة لم تخذلنا، فها هي تساهم بدورها أيضاً، لنصحو على زلزال حقيقي يهدم البيوت على رؤوس أصحابها ويرسل الناس إلى حياتهم الأخرى التي لن تكون أسوأ من هذه الحياة. حسناً، نحن الشعب الذي يطلب الخلاص بالموت. ولكن مهلاً لم تنته هذه المسرحية بعد، ماذا عن المئات الذين علقوا تحت الأنقاض؟ ما حكمهم في بلاد لا تملك الأدوات الكافية لإنقاذهم؟ وما حكم من بقي على قيد الحياة ولكنّه بلا مأوى؟ في بلاد لم يعد في جعبة سكانها ما يعينون به بعضهم بعضا؟ ما حكم المناطق المحاصرة، والتي أصبحت بفضل الألعاب السياسية على مرّ السنين، متروكة لقدرها، لا تحميها دول كبرى ولا تعترف بها دولتها الخاصة؟
ما زلنا نعيش على أمل الموت القريب، آملين أن يكون موتاً رحيماً
ننادي ونناشد الإنسانية، ولا أحد يستجيب لندائنا، فنحن الشعب الذي لا صوت له، حتى كوارثنا لا صوت لها، تحدث بصمت، بأطراف ليلنا الطويل، والشعور الإنساني حول العالم لا ذنب له. الإنسانية تعيش خارج هذه البلاد وبوفرة ولكنها قاطعتنا لأننا على ما يبدو لم نعرف كيف نختار أصدقاءنا.
لن يستجيب أحد في العالم لاستغاثاتنا، فنحن البلد الملحق بمحور الشرّ، نحن المعاقبون بسبب خيارات سياسية لم نتخذّها في الأصل. كنّا طوال حياتنا مكبّلين ومكمومي الأفواه، في بلاد لا خيار سياسيا فيها إلّا للخنوع أو السفر لمن استطاع إليه سبيلا. نحن وحيدون ومتروكون لمصيرنا بسبب أخطاء ارتكبت أصلا بحقّنا نحن.
وما زلنا ننتظر الجسور الجوية التي سيمدّها الأصدقاء وفيها الخيرات والدواء وبلسم الجروح، وننتظر الجسور العربية التي سوف تقوم بطريقة ما بكسر الحصار المفروض علينا، تحديداً نحن الذين لم نرتكب أيّ جرم غير جرم السكوت بسبب الرعب.
إنّ استنباط فلسفة للحياة بهذه الطريقة تحتاج إلى مجهود كبير. لم تعد تجدي معها القراءات ولا المراجعات التاريخية، ولا مقاربة الكوارث المشابهة، ولا تقريب وجهات النظر. فتواتر الضربات يجعل من المستحيل ترتيب منطق ما يربطها بنا أو بالبلاد أو بالحكام أو بالعصابات أو بإبليس شخصياً. ما هو الرابط بين مصائبنا يا ترى؟
ونجد أننا ما زلنا نعيش على أمل الموت القريب، آملين أن يكون موتاً رحيماً.