رمضان الفقد في غزّة

13 مارس 2024
+ الخط -

دائماً ما ندعو في آمالنا باستقبال شهر رمضان المبارك: "اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين"، ونحنُ نأمل من خلال هذا الدعاء أن يهلّ علينا هذا الشهر المبارك وقد جنّبنا الله فقد الأهل والأحبّة والأعزّاء والأقرباء، كما نأمل أن يجنّبنا الله يدّ الموت التي قد تطاولنا فجأة، فلا نبلغه ونكون عندها في عداد المفقودين.

كنتُ أفكّر في مضامين هذا الدعاء، عندما لاحت لي غزّة وأشكال الفقد التي عاينها أهلها وأناسها منذ بداية الحرب الإسرائيلية عليها، وقلتُ في نفسي: ربّما أنّ رمضان الذي يعود على الغزّيين هذا العام ليس سوى رمضان الفقد؛ الفقد في تعدّد أشكاله واختلاف صوره، وكثرة صنوفه وتنوّعه.

يا ترى كم شكلاً وصنفاً من الفقد ذاق طعمه الغزيون منذ بداية الحرب؟ وأيّ من هذه الأشكال والأصناف هو الأقسى والأشدّ مرارة؟

الغزّيون فقدوا أهلهم وأصدقاءهم وأحبّتهم، فقدوا بيوتهم، فقدوا أمنهم وأمانهم، فقدوا مصادر رزقهم، فقدوا مصادر غذائهم ومائهم، فقدوا الشوارع، فقدوا الشجر والحجر، فقدوا الأحلام والأمنيات، ولعلّه يَصحّ القول إنّه لم يبقَ شيءٌ من أشكال الفقد وصنوفه إلا عاينه الغزّيون وعرفوه.

 يعود رمضان هذا العام وقد استحال مجتمع غزّة الكبير إلى مجتمع من الفاقدين، الذين يكفي أن نتطلّع إلى عيونهم حتى نفهم قسوة الفقد وجلافته. 

 يعود رمضان هذا العام وقد استحال مجتمع غزّة الكبير إلى مجتمع من الفاقدين

إنّ معاينة أيّ إنسان لشكلٍ واحد من أشكال الفقد كافٍ لأنّ يجعله يقرّ بأنّ له طعماً يُشبه طعم العلقم، وله رائحة تُشبه رائحةَ الموت، وله ملمساً شوكياً قاسياً، وأنّ رؤيته ومعاينته وجهاً لوجه هي أقسى التجارب التي مرّت عليه. أفكّر بهذا وأسأل نفسي: إذا كانت تجربة فقد الإنسان لعزيزٍ واحد هي تجربة فيها من القسوة ما فيها، فما هو حال الغزيين الذين عاينوا الفقد بشكلٍ مضاعف ومكثّف، وبأصناف وألوان شتى؟!

تكتب الشاعرة الفلسطينية فداء زايد عن أشكال الفقد الكثيرة التي عايشها ويعايشها أهل غزّة ونساؤها منذ بداية الحرب الإسرائيلية: 

"أجبت عن كل النساء اللاتي فقدن بيوتهن

أنا بخير!

وعن كل النساء اللاتي فقدن مطابخهن 

أنا بخير!

أما عن النساء اللاتي فقدن أولادهن، فأجبت: 

أنا بخير! 

وعن كل الفتيات اللاتي فقدن فساتينهن قلت:

أنا بخير!

عن كل البنات اللاتي خُدشت أقدامهن: أنا بخير!

وعن كل العرائس اللاتي فقدن رغباتهن: أنا بخير! 

وعن شجر البيت قلت: أنا بخير!

وعن موج البحر أجبت: أنا بخير! 

وعن رائحة الفانيلا في مطبخ الجدات قلت: ما زالت بخير! 

وعن الأصابع المجروحة، والأقدام المبتورة، وعن الحزن المؤجّل، وعن الجثث المسروقة، وعن الأحلام، وعن الوداع، وعن شكلِ اللقاء، وعن الرجل الذي فقد، وعن الطفل الذي تاه، وعن النوم، وعن الضفائر، وعن اللعبة، وعن صحن الزيت، وعن خزانة البيت، وعن ورد الحدائق، وعن مقعد المدرسة، وعن الصف، وعن الولد الذي يجمع الأشلاء والحطب والماء بديلاً عن درس جمع ثلاثة وأربعة، وعن رائحة الزعتر في حقيبة المدرسة، وعن طابورِ الصباح ونشيد موطني، وعن البنت التي سقط جدار غرفتها على رأسها، وعن الأب الذي خرج فعاد طحيناً، وعن امرأة انتظرت، وعن بيت صار اسمه خيمة، وعن خصلة شعر صارت أثراً... 

يا لشراهةِ الفقدِ الذي لا يشبع منكِ يا غزّة ويا لبشاعته!

بحثت عن كذبة صادقة فلم أجد سوى: أنا بخير!".

تتحدّث زايد في مقطعها السابق عن ألف شكلٍ من أشكال الفقد الذي عايشه رجال غزّة ونساؤها، أولادها وبناتها، كبارها وصغارها، حجرها وشجرها، بحرها وجوّها وبرها، تلقيه في نصّها في قسوته الكبرى، ككرة نارية، قذفتها فوهة بركانٍ، فالتهمت كلّ شيء، وأيّ شيء؛ الناس، والبيوت، والشجر، والفساتين، والرغبات واللعب والمقاعد والأحلام.

تُلقيه كوصفٍ عمومي، وحالة جامعة، لا يملك من عايشها إلا أن يبحث عن تكذيب حقيقة معاينته لها وشهادته عليها، "أنا بخير" يقولها ويصمت.

يا لشراهةِ الفقدِ الذي لا يشبع منكِ يا غزّة ويا لبشاعته!