رسالة للكلّ
يدورُ نقاشٌ حادٌّ بين بقايا المعارضة المصريّة بالتوازي مع الإبادة الحاصلة للأهل في قطاعنا المغدور (قطاع غزّة)، رئيسُ قوامها تصوّر بعض الزملاء والأساتذة أنّ الخلل دائمًا في "التصعيد" و"الصدام"، وأنّ معارضةً ناعمةً ما يمكن ممارستها دون خسائر، أو بخسائر يمكن تداركها، ولا تؤثّر في الوجودِ المُعارض.
ورغم تقديري لمخاوفِ البعض وفهمي لمصادرِه، إلا أنّني رأيتُ دومًا (كما سبق وكرّرت في هذه المساحة)، أنّ السلطة لن تسمح بأيّ حراكٍ على أيّة صورة تحت أيّة مظلّةٍ، وفي مواجهة أيّة جهة، يستوي في ذلك الصمتُ بالهتاف، النساء بالرجال، الصهاينة والأمم المتحدة بالسلطة والأجهزة، البالونات باللافتات، الحديث عن المعبر بالحديث عن قتلِ النساء.
وهو ليس سُخفًا مجرّدًا ومعتادًا تقوم به السلطة من باب مضايقة خلق الله (وإن كان السخفُ واحدةً من مهام السلطة، أيّة سلطة)، إنّما لأنّها تُدركُ، وربّما أكثر منّا، حقيقةَ ما يمكن أن يتفجّر عنه أيّ تجمّع أو حراك لأيّة قضيّة مهما بَدَتْ بعيدة عن معارك الداخل.
وابتداءً: لا يوجد شيء اسمه معارك الداخل أصلاً، هذا فاصل متوَهَّم لا يوجد إلا في أذهان البعض؛ يمكنني تعداد مائة رابط بين الإبادة والاقتصاد والسياسة "الداخليّة" المصريّة، مثلاً.
ثانيًا: الخطورة في نظر السلطة تكمن بوجودِ ناس (أيّ ناس) في أيّ فضاءٍ، ولو كان افتراضيًّا، التقاء الناس بعضهم البعض سيفتحُ المجالَ للحوار والنقاش والشكوى، ومن ثمّ الصراخ.. والتفجّر.
التقاء الناس ببعضهم البعض سيفتح المجال للحوار والنقاش والشكوى، ومن ثمّ الصراخ... والتفجّر
ثالثًا: الكلّ ينتظر الفرصة، نحن نعلم ذلك كما تعلمه السلطة وأجهزتها، وكما يعلمه غالبُ الناس المتظاهرين بالتشاغل عمّا يجري حولهم، وفيهم، ولمبرّرات تمسّهم وتُهين كرامتهم بشكلٍ يوميّ، وكلّ تصديق بأنّ هذا التشاغل إنشغال، وهم كبير سيصدم صاحبه.
رابعًا: تصوّرات القضاء على الحَراك بالتخلّص من النفر القليل الظاهرُ منه، خبلٌ نتيجته غير محسوبة، وإن بدتْ ناجحة مؤقتًا أو تؤجّل شيئًا منه، فهي إن فعلت تدّخرُ ولا تُهدِر، وإن كانت على الجانب الآخر تنسف مساحات التوقّع عند ذات النفر المعروف سياقهم الفكري والحركي، وتخلق من حيث أرادت النفي، مفاجآت لا تكشفها إلا التجربة.
خامسًا: استمرار العزلة والفرديّة التي تعيشها البقيّة الباقية من قوى "المعارضة/الرفض" على اختلاف تسمياتهم ومشاربهم، مضرٌّ للجميع، والأهمّ مضرٌّ بالقضيّة التي يدّعي الجميع العمل عليها/لأجلها، ولعلّ غياب أيّ فعلٍ سياسيٍّ تقريبًا طوال السنوات الماضية (باستثناءات نادرة كالحراك لأجل تيران وصنافير، والتعديلات الدستوريّة، مثلاً) أنتج غياب التواصل، ومن ثمّ الثقة في النفس والآخر، وهو ما يتجلّى الآن في كلِّ محاولةٍ تتمّ بارتباك في البدء، ثمّ خمود شبه تام نتيجة لأيّ ضربة توجّهها السلطة، وهو ما لن يتجاوزه الجميع بغير خلقِ مساحاتٍ مشتركةٍ مع بعضهم على اختلاف تياراتهم وأفكارهم على طريق التغيير.
ختامًا: المسيرة مستمرّة، بنا أو بغيرنا، وستصل في النهاية إلى محطاتِها تغييرًا هنا أو تحريرًا هناك، ونحن نُسدي صنيعًا لأنفسنا حين نلحق بها، وإن لم نفعل فلا خاسر إلا نحن.