دندنة على وتر "هاوس أوف ذا كاردز"

15 مايو 2023
+ الخط -

يحدث أن تختزل حياة المرء، طوعًا أو كرهًا، في كلمة أو عبارة أو موقف أو مشهد أو دور أو كتاب، بلغة الدراسات والأبحاث والسينما هي جملة مفتاحية، أو ملخص لحياة هذا الإنسان، بها يدخل التاريخ من باب الخير أو الشر. كم طوّفت من أسماء الآن بعقلك، لعلك تذكر المتنبي والبيت الذي قتله، أو الشاب الكيني أبو بكر عباس، صاحب مقولة (ميرو إذ هير)، أو المترو هنا، التي عُرف بها خلال مونديال قطر 2022.

في دنيا الفن يعمد الممثلون إلى تكرار جمل بعينها، ثم يردّدها الجمهور لتصبح دلالة على نجاح العمل أو بعض شخوصه، الأمثلة على ذلك تستعصي على الحصر، إفيهات هدرس وجوني والدكتور ربيع ونفادي في "الكبير أوي" أحد تلك الأمثلة. بعض الكلمات تدخل القاموس، وسأثبت لك.

الممثل الإنكليزي، إيان ريتشاردسون، قدّم عددًا من مسرحيات شكسبير، وأمضى (أو إن شئت أفنى) عشرين سنة في دنيا المسرح، حقّق خلالها نجاحًا عريضًا لفت الأنظار، وله أفلام سينمائية وإذاعية... المهم حين سئل عن أكثر عمل يخلّد ذكراه في الناس، قال "بيت من ورق".

و"بيت من ورق" أو "هاوس أوف ذا كاردز" مسلسل مقتبس من رواية كتبها مايكل دوبز، وإنتاج هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عام 1990، أدى فيه ريتشاردسون شخصية فرانسيس أوركوهارت، الرجل الميكيافيلي الذي يسعى لقيادة حزب المحافظين البريطاني وتشكيل الحكومة. المسلسل من 4 حلقات، غير أنّ تأثيره في الشارع فاق التصوّرات، لدرجة أنّ الناس ربطوا بين أوركوهارت (الشخصية الخيالية) ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (المرأة الحديدية)، وقالوا إنه يعبّر عن طريقة وصولها إلى الحكم، على حد تعبيرهم!

زادت من قوة هذه الشائعات استقالة تاتشر بعد 10 أيام من عرض الحلقة الأولى، وتعزّزت صورة المسلسل في أذهان الناس، لدرجة أنّ جون ميجور، الذي جاء بعد تاتشر إلى 10 داوننغ ستريت، أوقف حملته الدعائية لمتابعة المسلسل هو وطاقمه بالكامل.

في 2013، أفادت نتفليكس من الرواية ذاتها، وأنتجت مسلسلًا يحمل العنوان نفسه، ويمتاز عن النسخة البريطانية في أنه يعرض السياسة الأميركية الداخلية. لم يكن من أربع حلقات، ولا أربعة مواسم، إنما جاء في ستة مواسم ناجحة بمقاييس عدّة. بين النسختين، واستثمارًا للاسم الناجح، فإنّ جولة سريعة على الشبكة العنكبوتية ستضع أمامك عددًا من المسلسلات والأفلام والأغاني والاسكتشات تحمل العنوان ذاته؛ "بيت من ورق".

في النسخة البريطانية، يُسأل أوركوهارت عن أشياء في دهاليز السياسة فيمتنع عن الإجابة، أو لا يريد التصريح تفاديًا للمساءلة أو حفاظًا على السرّية، غير أنه، ولحاجة في نفسه، يستعمل جملة بعينها، يقول "قد تعتقد ذلك، لكن لا يمكنني التعليق".

جملة مطاطية لا تسمن ولا تغني من جوع، قد تغري الصحافي بالتحرّي أكثر والسعي إلى معرفة تفاصيل أوفى، أو تصرف نظره أحيانًا عن متابعة هذا النفق، تسهم في هذا أو ذاك الرغبة الداخلية للصحافي مع شيء من لغة جسد أوركوهارت حين يتلفظ بجملته الأثيرة، وإن لم يختلف فحواها عن قول القدير حمادة هلال "مش هقول ع اللي حصل بيني وبينه".

جملة صمدت في اختبار المقابلات الصحافية، فاستباحها الساسة وأهدروا دمها، يلوكها أحدهم وهو يتنفس الصُّعداء لسان حاله "يِعْمِر بيتك يا أوركوهارت، نفدت بجلدي من المطب، وسلامتك يا دماغي"، أو يقولها مع ابتسامة حمّالة أوجه كأنّما يقول للصحافي "الحِدِق يفهم"، المهم أنّ هذا وذاك لن يقول في لقاء مع وسيلة إعلامية "لا تعليق"، فهذا غير مقبول في دنيا الصحافة، في حين أنّ جملة أوركوهارت شيّقة وشقية، تضيف لها لغة الجسد طعمًا حريفًا، يحمل طابع الإغراء والإغواء أحيانًا.

دخلت جملة أوركوهارت القاموس البريطاني، وخلّدت مسيرة إيان ريتشاردسون، ينتشي كلما تلفّظ بها سياسي في المملكة المتحدة أو أي من الشخصيات الناطقة بالإنكليزية، لعله يخاطبها خطاب أحدهم لنصفه الثاني "أنتِ أعظم إنجازاتي"، وسامح الله الجميع على الكذب!

تذكرت ذلك وأنا أقلّب في عالم تيك توك، إذ شاهدت شيئًا لم أتوقعه، وبالمناسبة هو شيء بريء؛ فطمئن على حالي فؤادك، إذ تأثّر الفنان الكوميدي الجميل محمد محمود بوفاة زميلته شيرين الطحان، التي لبّت نداء ربها في 7 إبريل/نيسان الماضي، وعبّر عن استيائه من حضور عدد قليل جدًا -لا سيّما من الفنانين- جنازتها والعزاء.

سأله مراسل إحدى القنوات المصرية عن رد فعله، أجاب "لا تعليق"، وأردف والحزن يستولي عليه بتعليق طويل يلوم الوسط الفني على قلة اكتراثه بوفاة زميلتهم بعد معاناة طويلة مع المرض، وفي نهاية حديثه قال محمد محمود "لا تعليق"!

هذا موقف إنساني، لا يقاس بمعايير السياسة، الرجل وهو يقول "لا تعليق" إنما يحمل لهجة الأسف والعتاب معًا، لا يتهرب من سؤال أو يراوغ، ومن ثم فإن السياق يحتمل، والضرورة تقدر بقدرها، فإذا عدنا إلى المربع الأول، مربع السياسة، فإن الذاكرة تحيلنا إلى الصحافية حسنية مليح وموقف ببرنامج (حوار) على شاشة (فرانس 24)، إذ تستضيف - عبر الأقمار الاصطناعية من اليمن - محمد علي الحوثي - رئيس اللجنة الثورية العليا في جماعة أنصار الله - في 18 إبريل/نيسان 2019.

تسأله سؤالًا فيجيبها "لا تعليق"، تسأل السؤال بصيغة أخرى، وهذه المرة يقول "لا تعليق"، تسأل حسنية سؤالًا آخر وتطيل مدة حديثها لعل الضيف يتفاعل ويجيب بأكثر من "لا تعليق"، وتستهل سؤالها في المرة الثالثة بديباجة لطيفة "أرجو أن يكون لديك تعليق على هذا السؤال"، وفي هذه المرة يجيب صاحبنا "لا تعليق"، لم تشفع الديباجة ولم تنفع، ولسان حال الصحافية والجمهور في أرجاء الأرض: أكثرت علينا من "لا تعليق" يا رجل!

من البديهي أنه لا تعليق على أحكام القضاء، ولا إدلاء بمعلومات تتعلق بقضية قيد التحقيق، أو لأن المسؤول أقسم على عدم إفشاء الأسرار، أو أنه وقّع على اتفاقية عدم الحديث إلى وسائل الإعلام، بالمجمل لديه سبب منطقي يبرّر عدم التعليق، أما غير ذلك فتعبير "لا تعليق" يشي باستهتار الضيف وقلة اكتراثه بالرأي العام.