دكتوراه في أدب حسيب كيالي
اتصل بي أبو سعيد، من إدلب، وقال إنه أُعجب بالفيديو الذي حَمَّلْتُه على يوتيوب، وتحدثت فيه عن الكاتب الكبير حسيب كيالي، وكذلك الفيديو الخاص بالدكتور عبد السلام العجيلي، وأضاف أنه يخشى على هذه القامات الأدبية من أن تدخل في النسيان، على الرغم من أهميتها الكبرى.
أخبرته أن طالبة مصرية كتبت لي تعليقاً على الفيديو نفسه، ينص على أنها بصدد إعداد رسالة دكتوراه بعنوان "البناء الفني في قصص حسيب كيالي"، وتحتاج إلى معلومات أو مراجع عنه.. هذا الأمر أسعدني، لأنه يدل على أن الكاتب الذي من طراز حسيب كيالي لا يمكن أن يُنْسى، على الرغم من تغير طبيعة التواصل بين البشر..
- ماذا تقصد بتغير طبيعة التواصل؟
- أقصد أن الكتَّاب كانوا، في السابق، يتواصلون مع الناس من خلال الكتب، والصحف، والمجلات.. وكانوا يحتكرون المنابر، بمعنى أن مَن يحاول من عامة الناس الكتابة والنشر، لن يصل إلى مبتغاه إلا بشق النفس، وطلوع الروح، ولكن التطورات الكبرى التي شهدها العالم، في ربع القرن الأخير، وصلت إلى حد أن يحتوي الموبايل، الذي لا تزيد مساحتُه عن راحة الكف، على هاتف، وكاميرا فوتوغرافية، وكاميرا تلفزيونية، ومكتبة تضم مئات الكتب بصيغة بي دي إف، وبحر متلاطم من المعلومات، تجدها على غوغل، أو ويكيبيديا، وفيه إمكانية الاتصال بالفايبر، والواتساب، والبوتيم، والإيمو، والماسنجر، إضافة إلى جهاز مونتاج، وإمكانية فتح بث مباشر، في أية لحظة، ليصغي إليه عددٌ غير محدود من الناس، وقد سألني أحد مشاهير التيك توك سؤالاً عجيباً، قال: عندما كنتَ في سورية، إذا دعيتَ لأمسية قصصية في مركز ثقافي، كم شخصاً يحضر الندوة في الحد الأقصى؟ قلت: 50. قال أنا أفتح بثاً مباشراً على تيك توك ويحضرني 3000 شخص، ويستمرون في الإصغاء إليّ زمناً قد يصل إلى ست ساعات!
- والله يا أبو المراديس صاحبك معه حق. بالفعل هذا التطبيق اجتذب ملايين الناس وفيه أشياء مفيدة.
- نعم. وفيه أشياء تافهة كثيرة، وأنت تجد فيه، كذلك، إنساناً عديم الثقافة، يتحدث بالجبيسي، ويضخ أفكاراً غبية، أو مضللة، ويرى، خلال البث، أناساً آخرين، يدخلون معه في مناقشات، وأحياناً يتبادلون الصياح، والسباب، بينما الكِتاب الذي يُصدره كاتب عربي كبير، حينما كانت ثقافة الكتاب الورقي على سروج خيلها، لم يكن يباع منه أكثر من ألف نسخة، خلال بضع سنوات، ومع ذلك، يا أخي أبو سعيد، ما زال هناك اليومَ أناسٌ يهتمون بالكتب المطبوعة، والقامات الأدبية الكبيرة.
- كلامك صحيح ودقيق.
- المهم، أن تلك الطالبة المصرية تواصلت معي على الخاص، وقالت إنها تمكنت من الحصول، تواً، على أعمال حسيب كيالي الكاملة التي طبعتها وزارة الثقافة السورية عام 2012، وترغب بالحصول على معلومات شخصية عنه، وعن أسلوبه.. فزودتُها بما لدي من روابط مقالات عن حسيب، موجودة على كومبيوتري منذ أيام الندوة التي أقامتها وزارة الثقافة في إدلب سنة 2006.. وعندما سألتُها عن الجامعة التي تَدرس فيها، أخبرتني أنها تدرس في كلية الأدب والنقد بجامعة الأزهر.
- جميل، ولكن، بما أنها مصرية، فقد تعاني قليلاً في فهم لغة الأستاذ حسيب رحمه الله.
- بالضبط. وهذا ما اتضح لي من خلال أسئلتها. وأنا بدوري أوضحت لها إن سر تميز حسيب كيالي، أصلاً، هو تلك اللغة التي ابتكرها بنفسه، وتقوم على تطويع العامية، أو لنقل صياغة العامية بالفصحى، وهذا ما جعل الأمر يلتبس على كثير من الذين قرأوه، فاعتقدوا أنه يكتب بالعامية، ولكنك تستطيعين أن تُعربي أي جملة في مؤلفاته، إعراب مفردات وجمل، وفي المحصلة: لغتُه تبدو بسيطة جداً، ولكنها منحوتة، ومركبة.
رجتني تلك الطالبة أن أضرب لها مثالاً على ما أقول، فقلت لها إنك لو قرأتِ الأعمال الكاملة قبل أن تسأليني، لاكتشفت ذلك بنفسك، ومع ذلك سأعطيكِ مثالين، الأول أنه؛ في إحدى قصصه، أراد أن يصف رجلاً تلقى خبراً ساراً، فقال: أصبح وجهُه مثل وجه طفل تَرَوَّقَ بسندويشة كباب لَحَّامُها في قلبه مخافة الله.
قالت الطالبة: لم أفهم.
قلت: نَحَتَ حسيب فعل "تروَّق" من لهجة أهل الشام الذين يقولون تروَّق بمعنى تناولَ طعام الفطور، ويسمون الطعام الصباحي ترويقة، وحسيب لا يلجأ إلى اللغة المقعرة، لذا لم يقل فطيرة، أو شطيرة، بل استخدم كلمة سندويشة الأجنبية نفسها، وأما أن يكون اللحام في قلبه مخافةُ الله، فتعني أن قطع اللحم الموجودة في داخل السندويشة وفيرة، وغير مغشوشة بالجلاميط.. والمثال الثاني من قصة ثورية عنوانها "سأعود إلى قتالكم"، وفيها رجال أرادوا أن يحاربوا فرنسا، سنة 1920، فذهبوا إلى جبل الزاوية، ولبسوا (أي تطوعوا) في جيش مصطفى الحاج حسين بقرية إحْسِمْ، وذات مرة سأل أحدُهم رفاقَه: فيها شيء إذا الواحد قَوَّى بسطارَه بمساميرَ من تلك التي كان يحدو به أبو صفُّو البيطار الكدش؟ هذه الجملة فيها إحالة إلى مهنة كانت شائعة في تلك الأيام، مهنة البيطار، الذي كان يعمل ضمن خان كبير، ويأتي إليه الفلاح ومعه بغل أو كديش يريد أن يحدوه، أي يصنع له حدوة، وعمل الحدوة يتطلب دق مسامير في الحدوة، وتسمى أحياناً (النضوة)، وهذه المسامير كانت تسمى المسامير الجَحَّاشِيّة، وتقوية البوط كان يعني أن يدق في أسفله، على الداير، مسامير.
ضحك أبو سعيد وقال لي: أنا دكاني في معرة مصرين كانت بجوار خان البرنوطي، وشاهدت عملية حَدي بغل أو كديش أو جحش مراراً، ولكنني، والله، لم أفهم الجملة جيداً.
قلت: ولكن، يجب علينا أن ننصف كاتبَنا الكبير حسيب، فهو لم يستغرق أعمالَه كلها بهذه اللغة الصعبة، بل إن هذه الصياغات الشعبية كان يلجأ إليها في بداياته، بهدف الإضحاك، ولكنه، مع تطور التجربة، أصبح شديد الحرص على الكتابة بلغة مفهومة، بل وسلسة، حتى إنه لم يعد ميالاً للتنكيت، والدليل أنه اعترض على جملة وردت في كلام للمرحوم سعيد حورانية، أن حسيب كان يبحث عن النكتة، فقال: ألم ير فيَّ سعيد حورانية غير هذا الجانب؟ وأنا أضيف، أن حسيب كان كاتباً معلماً، أقصد من حيث تقنيات السرد، وما السخرية إلا صفة إضافية، تعطي لأعماله نكهة خاصة.