دفاعاً عن أحمد دومة
قبل أيام قليلة، وبعد أكثر من عشر سنوات من الظلم، تمّ الإفراج عن الناشط السياسي أحمد دومة. ومنذ خروجه من بوابة سجنه، انقسم الناس حول الموقف منه من جديد، ما بين معارضين لا يريدون لأحد تجاوز الماضي وجراحه، وبين مؤيدين يرون في الإفراج عنه تراجعاً للدولة و"هيبتها".
ما يشغلني هنا هو موقف المعارضين، ووقوفهم زمنياً عند 2013، وكأنّ عشر سنوات من القيد والسجن ليست كافية لدفع الثمن، أو تكون كافية للتعلّم والمراجعة، ويتناسى هؤلاء الملائكة أنّ السجن لا يفرّق بين الخصوم السياسيين من أدنى اليمين إلى أقصى اليسار، ويتناسى الملائكة أيضاً أنّ الزنزانة الواحدة أو العنبر الواحد قد يجمع متناحرين سياسيين لا مجرّد خصوم فقط. فماذا يعتقد الناس في معيشة هؤلاء مع بعضهم البعض لسنين طويلة؟
لكن دومة كان ذكياً وحصيفاً ومتعلّماً ومستفيداً من فترة السجن بما يكفي، فكتب بعد خروجه مباشرة أنه يتمنى إنهاء ملف المعتقلين السياسيين تماماً وفوراً، ودون قيد أو شرط، وأنّ فرحته منقوصة ولن تكتمل إلا بخروج الجميع، ضاربا أمثلة بأسماء متنوعة على سبيل المثال لا الحصر: (علاء عبد الفتاح، محمد القصاص، عائشة خيرت الشاطر، عبد المنعم أبو الفتوح، محمد أكسجين، هدى عبد المنعم، مروة عرفة، حازم صلاح أبو إسماعيل، شريف الروبي، هالة فهمي، أنس البلتاجي، يحيى غزلان ..إلخ)، هذه الأمثلة وتنوّع الطيف السياسي فيها، إن تأملتها عزيزي القارئ، ستجد الكثير منها من أبناء التيار الإسلامي.
الزنزانة الواحدة أو العنبر الواحد قد يجمع متناحرين سياسيين لا مجرّد خصوم فقط
ورغم ما كتبه دومة ظلّ هؤلاء الملائكة رافضين له، قائلين إنّ هذه محاولة لتجميل الوجه، وليس شيئاً صادقاً منه، وأنّ يده ما زالت ملطخة بدماء الأبرياء الذين قتلوا في رابعة!
أتفهم غضب الناس من موقف دومة، وأقدره، لأنّي كنت غاضباً منه أشدّ الغضب، ولم أكن أرى في سجنه عقاباً مناسباً له، لأنّ صديق عمري خرج على شاشات الفضائيات يبرّر قتل من ماتوا برصاص قوات الجيش والشرطة، ومدافعاً عن النظام في لحظة تسيل فيها أنهار من الدم. كنت في قمّة الغضب وبقيت سنين على ذلك، لا أطيق حتى سماع اسمه، وأتجاهل حتى الأخبار التي تتناول ما يتعرّض له من انتهاكات داخل سجنه. لم أكن أريد أن أشعر بأيّ لحظة تعاطف معه. وكان هذا يعتصر قلبي مرّتين، مرّة بسبب الغضب منه لأنه صديقي، ومرّة بسبب ما يتعرّض له من أذى في سجنه.
اعتقل أخي الأصغر في 2018، كان أخي أيضاً يحمل غضباً من دومة، لكن يبدو أنّ السجن يغيّر الناس بشكل حقيقي. كان دومة في استقبال أخي، وساعده في بعض الأمور، وتحمّل بعض الأشياء من أجله. كانت هذه الأخبار تصلني، فيلين قلبي للمعروف. بقي أخي في السجن قرابة عامين ونصف، وبقي دومة يتعامل بكلّ كرم في إطار محدوية الفعل والإمكانات خلف الأسوار.
في السنوات الماضية خرج بعض الأصدقاء من السجن، وكان المشترك بين كثير منهم (وهم من أطياف سياسية متنوعة) حكاياتهم عن دومة، وما يفعله ويبذله مع الجميع دون نظر إلى لون سياسي، حتى لو قابله البعض هناك ببعض غلظة. لان قلبي أكثر.
بعد خروجه من المعتقل مباشرة، كتب أحمد دومة أنه يتمنى إنهاء ملف المعتقلين السياسيين تماماً وفوراً، ودون قيد أو شرط، وأنّ فرحته منقوصة ولن تكتمل إلا بخروج الجميع
في إبريل/ نيسان 2021 وصلني عن طريق صديقة خطاب موّجه إلي من السجين السياسي أحمد دومة (لا أدري تاريخ كتابته)، كان نصه ما يلي:
"عبد الرحمن
لا مقدمات تتحايل على الضمير، ولو جبرا لما أحدثه الغياب والمسافة.
لم أفكر في الأمر إلا جملة، تجنبا لعار أكبر -ربما- أو فرارا مما لا فرار منه.
وقراري القديم بألا إعلان لمراجعة أو استدراك، إلا حرا، قائم كما هو.
لكنها صعقة أن يظن بي ما ظننت، ثم أن تصب علي اللعنات كشريك في تلك المقتلة، على أي وجه.
عامة، لشدة ما حرصت على تجنب وصمة الدم -تورطا أو تحريضا، وخاصة الآن، حين يخص الأمر صديقا قديما- أو حتى مجرد رفيق، تشاركنا سويا يوم الزلزلة وما حولها.
أعتبره عارا وحيدا لحقني في كل الفائت، وقت أفلت لجام الخصومة دون تبين، دون تفرقة بين الموقف من القاتل ومن المقتول (ولو كان قاتلا سابقا).
لا مجال للتبروء، فقد حدثت الفضيحة على الهواء، وقت كان الطريق مزدحما بأرواح الصاعدين.
لا مجال للتبرير: عدم تكشف حجم الفاجعة، عزلة الاستديو، وواحدية المصدر .. ليست أسباب، روح واحدة، لها جلال ينسف كل مبرّر، ولو سبقوا الكل في تبرير مذابح غيرهم، أو التحريض عليها.
التقطتُ العدوى من جمعهم، ورددتها -جرما- إليهم.
وكان دوري -أصلا- رفض ذلك، وخلق مسار إنساني/ شريف، يقدم سيادة الإنسان (أي إنسان)، على أي قيمة، مهما عظمت.
لولا أحضرت لهنا -قسرا- لهلكت. حمتني تلك الظلومة من الانزلاق أسفل، خدمني السجان، للمرة الألف. لا عن الحرية حبستني الجدران، إنما عن التمادي في الخطيئة أكثر، ".. وربما منك ليعطيك".
مدين لهذه التجربة بالكثير. جدا. ومدين لك (وهذا ما أكتب له ..) -كـ وليّ، رفيق، وكصديق قديم- باعتذار صدوق، على ذلك التموضع الفاضح، وعزاء متأخر جدا (عزاكم الله وربط على قلوبكم).
كن بخير، وأسرتك.
والسلام
أحمد دومة
طرة تحقيق"
قرأت خطاباً يا صديقي حينها، ولان قلبي وذاب، وبكيت (كما الآن وأنا أعيد قراءته)، وكأنّي أطالعه لأوّل مرة. حينها قالت لي صديقتنا المشتركة، قبل أن تعطيني الخطاب: "أنا آسفة لو أزعجتك، بس معي رسالة مباشرة من شخص أنت جدا عزيز عليه، وهو صديق قديم لك، وهي أمانة طلب مني أوصلها لك، وطلب مني ردك على الرسالة. الرسالة خطية وشخصية لك".
ثم أعطتني مكتوبك، وأردفت "بتمنى تتقبلها برحابة صدر، وبستنى ردك عليها، ولو جملة واحدة، ومش شرط مكتوبة، وأنا بتصرف وبوصلها".
قلت لها عندما أتمالك نفسي سأرد، ولم أرد يا صديقي، كنت كلّما حاولت الإمساك بالقلم لأكتب لك، ترتجف أناملي، وأشعر بالبرودة في جسدي، وبتزايد خفقات قلبي.
هل يمكن أن نتجاوز آلامنا وأوجاعنا من أجل مستقبلنا ومستقبل هذا الوطن؟
اليوم فقط قرّرت أن أردّ عليك وعلى الملأ، بنفس ما قلته لك في يوم خروجك للحرية "أنا مدين لك بالكثير". مبارك لك حريتك، والعاقبة لكلّ المعتقلين السياسيين من كلّ التيارات ودون قيد أو شرط.
ختاما.. للجميع:
هذا الدفاع ليس صكّاً، إنما لوضع الأمور في نصابها حتى هذه اللحظة. لكن، هل يمكن أن تقرأوا خطاب دومة بعناية وتأمّل؟ هل يمكن أن نتحلّى بالصبر؟ هل يمكن أن نراهن عند بعض من ضمير عند بعضنا البعض؟ هل يمكن أن نتجاوز آلامنا وأوجاعنا من أجل مستقبلنا ومستقبل هذا الوطن؟ هل يمكن أن يتجاوز الفرقاء السياسيون عن بعضهم البعض؟ هل يمكن أن ننظر للجرائم التي ارتكبتها تياراتنا السياسية بحق ثورتنا؟ هل يمكن أن نقرأ جميعاً عن العدالة الانتقالية التي سنضطر للتعامل فيها مع المجرمين من القتلة قبل الخصوم السياسيين؟
هل يمكن أن نفكر قليلاً ونؤمن أنّ النجاة جماعية؟