دراسة عن ثروة هيكل وتأثيره (1/3)

09 اغسطس 2021
+ الخط -

"يشكل التاريخ المصري السياسي الحديث نموذجاً معبراً لفهم الحاضر والمستقبل العربي، وللإحاطة بهذا التاريخ السياسي يمكن اختيار تحليل شخصية تشكل أحد مفاتيح هذا التاريخ، وهي شخصية تبدو في الظاهر متناقضة، فهي عايشت على التوالي نظامي عبد الناصر والسادات، إنها شخصية الكاتب الصحافي العربي الشهير محمد حسين هيكل والذي عمل مستشارا سياسيا لعبد الناصر والسادات".

هذه هي الفرضية التي اتخذ منها الباحث الأردني جمال عبد الكريم الشلبي مدخلاً لأطروحة دكتوراه في العلوم السياسية قدمها إلى جامعة السوربون وأشرف عليها البروفيسور فرانسوا مون كوندوي وكان صاحب فكرتها العالم الفرنسي الراحل "جان لويس سوران"، وقد صدرت ترجمة لها في كتاب عنوانه "محمد حسنين هيكل.. استمرارية أم تحول؟"، نشر بالعربية في عام 1999 لكنه لم يلق الاهتمام الذي يليق به ولا بأهمية من يدرسه، وربما كان السبب كما علمت بعد صدور الكتاب أن "الأستاذ" هيكل لم يكن راضياً عن الطريقة التي تناولها به الكتاب، لدرجة أنه طلب من أحد تلاميذه من الصحفيين البارزين ألا ينشر عرضاً نقدياً للكتاب، لأنه في رأيه "لا يستحق"، برغم أن مؤلف الكتاب أكد في مقدمة كتابه أنه اعتمد على حوار شخصي أجراه مع هيكل.

حين كنت أستعد للكتابة عن هذا الكتاب عقب صدوره، سألت بعض المقربين من هيكل، فقال لي إن ذلك الحوار لم يدم سوى دقائق لا تتجاوز ربع الساعة، مع أن هيكل كان قد حدد وقتاً مناسباً للقاء الباحث في الشاليه الخاص به في الساحل الشمالي، مكان اصطيافه المفضل، لكن الباحث الأردني سيء الحظ وصل متأخراً جداً عن موعده بسبب عدم اهتدائه إلى عنوان الشاليه، فلم يبق من وقته المحدد سوى الدقائق التي منحها له هيكل الذي كان مرتبطاً بعشاء مع وزير الخارجية وقتها عمرو موسى، لكن المؤلف لم يذكر هذه التفاصيل في مقدمة كتابه بل أشار إلى قيامه بإجراء حوار شخصي مع هيكل، وبالطبع كانت الاستشهادات التي يذكرها في كتابه اعتماداً على ذلك الحوار قليلة جداً.

لذلك أعتقد أن ملابسات ذلك اللقاء المبتسر تركت انطباعاً سلبياً لدى الباحث الأردني الذي كانت لديه صورة غائمة ومضطربة عن هيكل ومواقفه، خاصة أنه لم يجد في الدراسات السابقة ما يجيبه على كثير من الأسئلة الطموحة والجريئة التي طرحها حول مواقف هيكل وأفكاره، ففي الدراسات الأجنبية لم يجد سوى رسالة دكتوراة يتيمة قدمها منير ناصر في جامعة أيوا بالولايات المتحدة عام 1979، أما الدراسات العربية فقد وصفها جمال الشلبي بأنها "مؤدلجة تماماً" إما مؤيدة لهيكل جدا أو معادية له جدا، وهي مأساة لا تخص ما كُتب عن هيكل فقط، بل تنسحب على السواد الأعظم من كتبنا العربية عن سائر القضايا والأشخاص الفاعلين فيها.

يناقش المؤلف هذا الاتهام الذي تم توجيهه لهيكل بالإلحاد، والذي أعلنه السادات في خطاب تليفزيوني يوم 15 سبتمبر 1981، أي قبل اغتياله بثلاثة أسابيع، حين قال إن هيكل رجل ملحد  زاعماً أن هيكل اعترف له بذلك

يخصص جمال الشلبي الجزء الأول من كتابه للحديث عن بدايات هيكل في الصحافة وتطور علاقته بجمال عبد الناصر وثورة يوليو، وموقفه منها ومن خصومها السياسيين من الشيوعيين والإخوان المسلمين. ويصل إلى استنتاج من قراءة مستفيضة لحياة هيكل في هذه المرحلة أن هيكل أراد أن يكون صحفياً فقط، ثم دفعه عشقه للشأن العام ورغبته في خدمة قضية مصر إلى الدخول تدريجياً في عالم السياسة، لكن خصوصيته عن غيره من الذين فعلوا ذلك تكمن في عدم تركه الاهتمام بالصحافة، وممارسته الصحافة والسياسة في آن واحد، ويرى أيضاً أن علاقة هيكل بعبد الناصر تحولت تدريجياً من وفاء معلن لشخص عبد الناصر إلى وفاء معلن لنظامه، حيث أصبح هيكل يدافع عن ثورة يوليو في وجه معارضيها من المثقفين الذين تم إبعادهم عن الحياة السياسية والاجتماعية "بسبب رفضهم لعبة فلسفة الثورة التي صاغها عبد الناصر وهيكل معاً، مستخلصاً من تحليله لكتابات عديدة كتبها هيكل في تلك الفترة أنه أصبح لا يرى دوراً للمثقفين المصريين إلا بالالتزام السياسي غير المشروط بخدمة ثورة عبد الناصر.

خلال دراسته لموقف هيكل من جماعة الإخوان المسلمين، يرى الشلبي أن هيكل أصبح الهدف المفضل للإسلاميين وهجومهم، لأنه كان صوتاً للناصرية التي لا يمكن أن تلتقي مع أيديولوجية الإخوان التي تسعى لاستغلال الوجدان الديني للشعب المصري، مع أن الناصرية عند هيكل لا تتنكر للإسلام بوصفه مكوناً أساسياً في الثقافة العربية، لكنه يعتبر أن الانتماء الديني تالٍ للأهمية بعد الانتماء القومي للأمة العربية.  وينقل عن هيكل رأيه أن اعتراضات الإخوان على ما يصفونه بالمظاهر الديكتاتورية الناصرية "مشوبة بالخبث وسوء النية"، لأن الفكر الإسلامي الذي يتبنونه غير مهيأ إلا قليلاً لقبول التعددية السياسية.

يرى الشلبي أن هيكل لم يكن مؤيداً ولا متعاطفاً مع الإخوان في الفترة التي سبقت ثورة يوليو مثل عدد من أبناء جيله، ليس لأنه يمتلك توجهات مضادة للدين، بل لأنه يمتلك فهماً خاصاً للنظام السياسي للمجتمع المصري دفعه إلى قطيعة مع الإخوان، ولذلك رفض في عام 1940 أن يتولى مسئولية تحرير إحدى صحفهم، طبقاً لعرض قدمه له الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها العام، والذي أراد تشجيع هيكل وطمأنته أن الصحيفة ستحقق رواجاً كبيراً، فقال له إن في مصر 4 آلاف قرية بكل منها مكتب دعاية يضم 12 عضواً إخوانياً، وإذا اشترى هؤلاء فقط الصحيفة ستوزع 48 ألف نسخة فور صدورها، لكن هيكل الشاب رفض هذا العرض الإخواني المغري مفضلاً الاستقلالية.

عند دراسة المؤلف لموقف هيكل من الشيوعيين، يؤكد أن هيكل لم يكن ماركسياً ولا شيوعياً في أي فترة من الفترات، لكنه هو وحكم عبد الناصر تعرضا لهجمات من معارضي الشيوعية من الإخوان وأنصار السادات اتهموه فيها بالشيوعية والإلحاد، برغم أن هيكل وقف بقوة إلى جوار عبد الناصر خلال صراعه مع الشيوعيين، وذلك في مقالات نشرها عام 1957، ويستعرض المؤلف تأكيداً على هذا من مقاطع كتاب صدر لهيكل بالفرنسية عنوانه (أبو الهول والشرطي صدمات ومآسي السوفييت في الشرق الأوسط) وهو بالمناسبة كتاب لم يترجم إلى العربية لأن هيكل كان يخاطب به جمهوراً محدداً بعيداً عن العالم العربي، مؤكداً للقارئ الغربي أن هناك فارقاً كبيراً بين الشيوعية والاشتراكية العربية التي اتبعها نظام عبد الناصر.

يناقش المؤلف هذا الاتهام الذي تم توجيهه لهيكل بالإلحاد، والذي أعلنه السادات في خطاب تليفزيوني يوم 15 سبتمبر 1981، أي قبل اغتياله بثلاثة أسابيع، حين قال إن هيكل رجل ملحد  زاعماً أن هيكل اعترف له بذلك، وهو الاتهام الذي نفاه هيكل بعد خروجه من السجن في عهد الرئيس مبارك في كل ما أجري معه من حوارات، ومع ذلك لم يكف العديد من قادة الإخوان من توجيه الاتهام له، وحين تكرر توجيه الاتهامات في التسعينات، رفض هيكل الرد عليها في حوار أذيع معه على التلفزيون المصري أجراه معه مفيد فوزي واعتبر أن علاقة الإنسان بربه هي أمر لا يمتلك أحد حق مناقشته، لكنه في حواره القصير مع الباحث الأردني تخلى عن صمته في هذه النقطة، لكنه لم يتحدث عنها بشكل شخصي بل تحدث بشكل عام فاعترف بأهمية الدين في المجتمعات العربية والإسلامية قائلاً إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم " لم يُرسِ فقط معتقدات ايمانية وممارسات دينية، بل نمط سلوك كامل يجب أن ينظم المجتمع من حوله، فالإسلام يحدد العلاقات بين الانسان وربه كما يحدد العلاقات بين الناس انفسهم، هذه المعتقدات والممارسات صالحة لجميع الازمات وعلى المؤمن أن يقتنع بصلاحيتها العالمية الخالدة"، وهو كلام لا يختلف مع جوهر ما يطرحه قادة الإخوان الذين سبق لهم التشكيك في إيمان هيكل، قبل أن يتوقفوا عن ذلك بعد اشتداد معارضته لمبارك، بل وقام العديد منهم بالثناء عليه والتأكيد على احترامهم له برغم خلافهم السياسي معه.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.