"دارت الأيام".. وظلّت هواتفهم ترنّ

21 يناير 2023
+ الخط -

كان صيفاً قائظاً، لم يتحرّك "الكار" (الحافلة) غير المصنّف من القامرة (محطة قديمة في الرباط) إلا بعد أن اكتظّ، وبعد أن أوشكنا على إسلام الروح إلى بارئها. بعد أن أخذ "الكار" أخيرا سرعته القياسية عبر الطريق الساحلية الرومانطيقية، دخلت بعض النسائم من نوافذ غير مرئية، فتلطّف الجو قليلاً، وعادت الحياة إلى الركاب، فبدأت الهمهمات والغمغمات والتعارف، ووصلتنا الموسيقى من مسجل السائق بصوت أم كلثوم: "دارت الأيام"، فبدا أنها ستكون رحلة طويلة.. 

كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء تقريباً، وبداية عصر الهواتف النقالة قد أصاب الناس بالحمّى. كنت أملك هاتف "موطورولا" ضخماً بشاشة صغيرة جدا، إضاءته صفراء فاقعة، بينما يملك صديقي هاتف "إريكسون" العملاق الشبيه بناطحة سحاب. على يسارنا جلس زوج وزوجته، إنهما مهاجران مغربيان صحراويان قادمان من ليبيا، كما تبيّن لنا بعد دقائق. إنهما في حقيقة الأمر زوج غريب الأطوار. جلس طفلاهما على الكرسيين اللذين أمامهما. كلّ دقيقة يخرج الزوج هاتفه ويرن على زوجته، وفي الدقيقة التي تليها تخرج الزوجة هاتفها وترن على الزوج، ثم يرن الزوج على الطفل الأول، ثم ترن الزوجة على الطفل الثاني، ثم يرن الطفل الأول على أمه، ثم يرن الطفل الثاني على أبيه، وهكذا إلى ما لا نهاية، دون أن يفتحوا الخط، لأنّ المكالمات كانت في ذلك الزمن الغابر باهظة جدا. أحيانا نسمع في نفس الوقت أكثر من رنة: الطفل الأول يرن على الطفل الثاني والأم ترن على الأب أو الطفل الأول يرن على الأم، والأب يرن على الطفل الثاني.. إلخ. بعد ذلك يناقشون إعدادات الهواتف ومشاكل الاتصال بالشبكة وضعف الريزو (التغطية) في المغرب، داخل "الكار" خصوصاً، ويتبادلون الهواتف فيما بينهم، ثم كلّ مرّة يتطوع الأب كي يشرح لهم بخبرة منقطعة النظير، كيف يطفئون هواتفهم وكيف يشغلونها وكيف يضيفون إليها أرقام أصدقاء جدد وكيف يحذفونها. الزوجة لم تخف أبداً إعجابها بزوجها وفخرها به وهي تنصت بإمعان إلى شروحاته الهندسية المستفيضة لكيفية ضبط وإعداد الهاتف بصوته الصحراوي الجهوري الواثق الذي يصل حتى السائق، وتطرح أسئلة مستمرة، فيما أم كلثوم ما زالت تعيد لازمة: "دارت الأيام"، ولم أعد أتبيّن عبر النافذة المظلمة أين وصل "الكار" وأين لم يصل.

أخرجت أنا أيضا هاتفي وأطفأته، ثمّ أعدت تشغيله مستمتعاً بإضاءته الصفراء وبموسيقى انطلاقه وإغلاقه الصارمة والمقتضبة كموسيقى موجز أخبار. ما كان يميّز هواتف عائلة الصحراوي هو أنتينات صغيرة مزوّدة بإضاءة إشارية جذابة تشتعل وتنطفئ حسب إشارة الريزو بألوان مختلفة، إضاءة مميّزة للغاية ومستفزة، شبيهة بإضاءة سيارات الإسعاف التابعة للمصحات الخاصة باهظة الثمن، إضافة إلى أنّ هواتفهم أصغر قليلاً من هواتفنا.

كانت تتكرّر كلمة ليبيا على لسان الزوج أو الزوجة على مسامعنا بفخر لم أستطع فهمه حتى الآن، ما جعلني أحسّ رغماً عني أنّ الهجرة إلى ليبيا والعمل فيها يعني شيئاً شديد الأهمية...

بدت عائلة مميزة فعلاً، وتتصرف بالضبط كعائلة قادمة من أوروبا، وفي كلّ مرّة كانت تتكرّر كلمة ليبيا على لسان الزوج أو الزوجة على مسامعنا بفخر، إلا أنّ ذلك التكرار لاسم تلك الدولة ولمعان أنتينات هواتفهم وسط عتمة الكار وانسجامهم الكامل كأسرة سعيدة، جعلني أحسّ رغماً عني أنّ الهجرة إلى ليبيا والعمل فيها يعني شيئاً شديد الأهمية.

شعرت ببعض الغيرة التي أخذت شكل انزعاج من رناتهم المستمرة وثرثراتهم التي لا تنتهي وإضاءات أنتينات هواتفهم الغمازة التي تشبه هواتف عاشوراء، فبحثت عن خاصية المصباح في هاتفي، أشعلته وفتحت كتاباً: أتذكر جيداً أنه ضم أشعاراً لكريم حوماري. لم تكن عندي رغبة حقيقية في القراءة، ورغم ذلك سلطت ضوء مصباح الهاتف على صفحات الكتاب، ممثلاً أني أقرأ، وفي أعماقي كان القصد من ذلك أن أقول لهم إنّ هاتفي، أيضاً، يتوفّر على خاصية الإضاءة. نظروا إليّ باستغراب، ولم تمر دقائق معدودة حتى جرّبوا هم أيضا أمامي خاصية المصباح في هواتفهم، مؤكدين لي أنّ هواتفهم أفضل، إذ إنها إضافة إلى المصباح، فهي أصغر ومزينة بأنتينات تتراقص بالأضواء. كانوا فخورين جدا بهواتفهم فخراً قياسياً.

حاولت أنا أيضا أن أرن على صديقي الذي نام مباشرة بعد انطلاق "الكار" من القامرة، إلا أني وجدت أنّ هاتفي قد فقد "الريزو" بشكل كامل. شعرت أنّ هواتفهم تفوقت على هواتفنا حتى في إشارة "الريزو"، إذ ظلّت ترن على بعضها دون مشاكل. بلغ بنا "الكار" أزرو (مدينة مغربية). قال السائق إنّ علينا النزول في اتجاه مقهى محدّد من أجل العشاء داخل استراحة مدتها ربع ساعة. كانت أم كلثوم ما زالت تردّد لازمتها الشجية: "دارت الأيام"، وصديقي استيقظ وتثاءب وتمطّى وألصق وجهه بزجاج النافذة، محاولاً تبيّن أين نحن، والزوج قد نزل بينما ظلّت الزوجة جالسة ليرن عليها من خارج الكار، وطفل معه وطفل معها يؤكدان لهما عبر النافذة أنّ الرنين شغال كما يجب، وأنّ الهواتف لم تتعطل بعد.. 

لم نهتم كثيرا بمقهى الشواء ذاك، فقد كان عشاؤنا داخل حقيبتي ظهرينا، باستثناء قنينتي ليمونادا صغيرتين باردتين اشتريناهما من دكان. سألنا عجوزا: متى سنصل إلى مرزوكة؟ أجابتنا أنها ما تزال بعيدة، بعيدة جدا..

حين بلغ "الكار" الراشيدية نزلت عائلة الصحراوي. انطلق "الكار" مجدداً في اتجاه الريصاني، وبدت الرحلة كئيبة ومملّة وخالية من أيّ مرح دونهم. كان النوم قد غالبني، فاستسلمت له على إيقاع رجرجات "الكار" ومواويل أم كلثوم النادبة التي بدت أطول من الرحلة..

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.