خيال الفتى الأهبل أبو خربوش المبدع

25 ديسمبر 2023
+ الخط -

كنت أحكي مع صديقي أبو سعيد، المقيم حالياً في إدلب، عبر "واتساب"، وكان يطلب مني استئناف الحديث عن "عصر ما قبل التلفزيون"، وفجأة سألته: هل تعرف مِحْرَاك التنور؟

- طبعاً.

- ما وظيفته؟

- عندما تخبو النار في التنور، تستخدمه الخَبَّازَةُ في تحريك القاع المملوء بالجمر، فتزول عنه طبقة الرماد، ويتوهج، وتعود الحرارة إلى الارتفاع لإنضاج الخبز. ولكن، لماذا تسأل؟

- لأنك تفعل بذاكرتي مثلما يفعل محراك التنور بالضبط. مثلاً؛ عندما ذكرتني بشخصية "أبو خربوش"، حضرت في ذاكرتي مجموعة من حكاياته التي يتداولها أهل المدينة حتى الآن، على غرار ما يفعل التشيك بالحكايات التي رواها "الجندي الطيب شفيك" في الرواية الرائعة التي أبدعها ياروسلاف هاشيك.

- أنا سمعت بعض حكايات أبو خربوش، ولكنني، يا أبو مرداس، غير قادر على روايتها، لأنني، عموماً، غير بارع في سرد الحكايات الشفاهية. 

- طيب. سأروي لك، الآن، بعضها. أنت تعرف أن أبو خربوش كان إنساناً طيباً، عاقلاً، ولكنه مولع بالكذب. لا يكذب لأجل تحقيق مصلحة، أو لإيذاء أحد، بل ليثبت للناس أنه شخص مهم، أو أنه ليس أقل منهم شأناً. والجميل فيه أنه، حينما تنكشف أكذوبته لا يرتبك، بل يحاول إيجاد أكذوبة أكبر منها. والأشخاص الذين يستمعون إليه كانوا يساعدونه على إتمام الأكذوبة، لكي يعرفوا كيف حيكت في مخيلته.

- هل يوجد مثال؟

- طبعاً. أبو خربوش يبدأ بسرد حكاية حصاد القمح، قائلاً: أنا في موسم الحصاد استأجرت خمسين عاملاً، وأركبتهم في تريلا التركتور، وسقتُ بهم إلى الحقل.. أصدقاؤه يكتشفون وجود ثلاث أكذوبات في آن واحد، أولها أن أبو خربوش وأسرته كلهم فقراء، وليس لديهم حقل، وثانيها، أنهم لا يمتلكون تركتوراً ولا تريلا، وثالثها أن أبو خربوش يمشي على قدميه بصعوبة، فكيف يسوق التركتور؟

- ولكن يبدو أنه ذاهب لتأليف أكذوبة كبيرة جداً.

- نعم، وهي، في الواقع، عامرة بالإبداع القصصي، إذ يقول إنه أنزل العمال عند تخم الأرض، وقال لهم: يا الله، يا شباب، دعونا نرى همتكم. وكان له ما أراد، فقد بدأوا يحصدون بنشاط، ويكومون الحصيدة في تلال كبيرة.. واستمر الأمر كذلك حتى صار وقت الغداء، وهنا يصل أبو خربوش إلى ذروة القصة، وعقدتها، فقد نسي، كما قال لرفاقه، أن يحسب حساب الغداء، وفكر أنه إذا لم يطعم هذا العدد الكبير من الناس، فسوف يطالبونه بالطعام، وإذا لم يفعل سوف يتكاثرون عليه ويضربونه، لأن الإنسان الجائع يصبح عصبياً وشرساً، فما كان منه إلا أن صاح بهم: توقفوا عن العمل أيها الرجال، واصغوا إلي. وقف العمال، وصوبوا أنظارهم إليه.. فما كان منه إلا أن صار يمشي إلى الخلف، ولم يكن منتبهاً إلى وجود حفرة كبيرة، وكأنها جُبّ، وراءه، فسقط فيها، وركض العمال نحوه لكي ينقذوه، والغريب في الأمر أنهم لم يعثروا عليه، ولا حتى على الحفرة!

صفر أبو سعيد بفمه، مندهشاً، وقال: يخرب بيته. ما أكذبه!

- نعم. ولكن وقوعه في هذا الجب ساعده في الخروج من مأزقه، كما قال، فقد وجد نفسه، بعدما سقط، في مكان يشبه المدجنة، ففي لحظة ارتطامه بالأرض بدأ عدد كبير من الدجاجات البَيَّاضات يطلقن أصوات القوقأة التي تلي تخلص الدجاجة من البيضة، وحينما مشى نحوهن هربن، ووجد نفسه أمام كمية كبيرة من بيض الدجاج، فابتسم، وقال لنفسه: أحسن شيء هو أن أطعم عمالي بيضاً مقلياً، ولكن كيف أقليه؟ يعني أبو خربوش وقع في مشكلة أخرى، فمشى واضعاً يديه خلف ظهره، مفكراً في مخرج، وإذا بحَلّة نحاسية كبيرة، ترتفع عن الأرض حوالي نصف متر، قرفص ونظر تحتها، فوجد موقداً نارياً مشتعلاً. وقف، وتطاول على رؤوس أصابع قدميه، فرأى شيئاً لزجاً ينقط من سقف المغارة، مد يده، وأخذ منه عينة، ذاقها بفمه، وإذا هي سمنة عربية أصلية، تنقط في قلب الحلة، فعاد مسرعاً باتجاه البيض، وصار ينقل منه سلة وراء سلة، ويقف قرب الحلة، ويفقش البيض، ويُسقطه في الحلة.. ومد يده إلى الحائط، فوجد عليه طبقة من الملح، أخذ منه قليلاً، ووضعه في الحلة، دواليك حتى نضج البيض المقلي، وهنا وجد أبو خربوش نفسه أمام معضلتين كبيرتين. يا ترى، يا أبو سعيد، هل يسعفك خيالك في معرفة ما هما؟

- أعترف، يا أبو مرداس، بأن خيالي قاصر عن مجاراة خيال السيد أبو خربوش.

- عاد أبو خربوش إلى المشي، داخل هذا العالم السفلي الغريب، فرأى امرأة تخبز على التنور، فتقدم منها وسلم عليها، وبدأ يساومها على شراء كمية من الأرغفة، فضحكت المرأة وقالت: عيب علينا أن نأخذ ثمن الخبز من إنسان طيب ومحترم مثلك يا سيد أبو خربوش. خذ ما تشاء من الخبز. وقدمت له بضعة أرغفة، فشكرها، وأوضح لها أنها ربما لم تفهم مقصده، فهو لا يريد خبزاً لنفسه، بل إن معه عدداً كبيراً من العمال الذين يحصدون القمح في الأعلى. فقالت له: فهمت عليك. خذ كل ما خبزتُ كله، وأنا عندي عجين جاهز، أخبز لأسرتي غيره.

قال أبو سعيد: كنت أتوقع حل مشكلة الخبز بسهولة، ولكن كيف سيصعد هو وطعامه إلى الأعلى؟

- بسيطة جداً. يمكنك أن تدير الأكذوبة الأولى في الاتجاه المعاكس.

- كيف؟

- عندما كان في الأعلى، مشى إلى الخلف، فوقع في الحفرة. أليس كذلك؟

- بلى.

- قال لنفسه: أنا صار عندي طعام جاهز، فكيف سأصعد به إلى الأعلى؟ ومن شدة حيرته، صار يمشي إلى الخلف، فسقط، وعندما فتح عينيه وجد نفسه، مع سفرة الطعام في الأعلى، وبلغ قمة السعادة عندما رأى العمال متحلقين حول الطعام، ويأكلون، ويشكرونه على هذا الطعام اللذيذ!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...