خطرٌ صامتٌ في الهواء
شاهدت صورة من خلال شخص أحبّه وأحترمه كثيرًا لغروب الشمس في العزيزة بغداد. ولكن ما لفتَ انتباهي هو التغيّر في اللون الناجم عن الانتشار البصري الناجم عن الجسيمات المعلّقة في الهواء. هذا ليس الغروب الذي كنت أراه منذ سنوات، إذ تنتشر اليوم هذه الجسيمات في الجو العراقي بشكل واسع، وخاصة في بغداد، لتحاصر الأطفال في أحضانهم وتهدّد صحتهم ومستقبلهم قبل رفاهيتهم الاقتصادية. لذلك، من الضروري زيادة الوعي حول هذا التهديد الكبير، وهو تلوّث الهواء.
يشير تلوّث الهواء إلى إطلاق مختلف الغازات والجسيمات الدقيقة، سواء كانت صناعية أم طبيعية، على مستويات عالية. إنه إحدى المشاكل الصحية الرئيسية التي تهدّد الشعب العراقي. ولتوضيح جدية المخاطر الصحية الناجمة عن تلوث الهواء، تكفي الإشارة إلى تقرير منظمة الصحة العالمية حول خطورة تلوث الهواء العالمي، وكيفية إسهامه في أمراض القلب والأوعية الدموية والوفيات. كما تشير التقارير إلى أنّ التدخين وتلوّث الهواء يساهمان على قدم المساواة في حدوث سرطان الرئة. لذلك، يمكن تقليل وفيات سرطان الرئة عن طريق خفض هذا التلوث.
يذكر التقرير المذكور أعلاه أنّ تلوّث الهواء يُعدّ عاملاً في مختلف أنواع السرطانات، وأنّ التعرّض لمستويات عالية من الغازات الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري (النفط والفحم)، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة حدوث سرطانات المجاري التنفسية. كما هناك ترابط ملاحظ بين تلوّث الهواء وزيادة حدوث سرطان المثانة والكلى.
خطورة الملوّثات الهوائية هي تراكمية، وهي تؤثر بشكل أكبر على الأجيال الجديدة من البالغين
لفهم واقع الهواء الملوّث في العراق، يكفي أن ندرس الإحصاءات التي نشرتها إدارة الإحصاءات البيئية التابعة للهيئة المركزية للإحصاء في العراق. ومن خلال قراءة هذه الإحصاءات، يتضح أنّ أعلى مستوى لثاني أكسيد الكبريت تمّ تسجيله في العاصمة بغداد، وخاصة في الجادرية بالقرب من جامعة بغداد، بنسبة تتجاوز 5700% مقارنةً بمدينة البصرة بسبب الملوّثات التي تنبعث من مصفاة الدورة. نعم، سيدي، 5700% في مدينة تضم أكثر من عشرة ملايين نسمة. بالمثل، يكون تركيز الجسيمات المعلّقة في الهواء في بغداد أعلى بنسبة 380% من التلوّث في مدن ذات كثافة سكانية عالية مثل نيويورك في الولايات المتحدة.
خطورة الملوّثات الهوائية هي تراكمية، وهي تؤثر بشكل أكبر على الأجيال الجديدة من البالغين. إنها تهدّد صحة وسبل عيش الأجيال المستقبلية، مما يؤدي إلى انخفاض كبير في متوسط العمر للمواليد الجدد في العراق. حاليًا، يبلغ متوسط العمر المتوقّع في العراق، وفقًا للإحصاءات من وزارة الصحة العراقية، قيمة منخفضة جدًا، حيث يصل إلى 58 عامًا للفرد.
مواجهة تلوّث الهواء في العراق ليست رفاهية بل ضرورة أساسية تتجاوز أهمية مكافحة الإرهاب. يرجع ذلك إلى صعوبة التخفيف من المخاطر الناجمة عنه على المستوى الفردي، لذا، يجب على الحكومة العراقية تنفيذ مجموعة من التدابير العملية التي تسبقها حملة شاملة للتوعية الإعلامية الموجّهة للمواطنين لأخذ الحيطة والحذر من هذا القاتل الصامت الذي يهدّد الجوانب الحيوية في الحياة ويشكل عبئًا صحيًا على الشعب العراقي.
مواجهة تلوّث الهواء في العراق ليست رفاهية بل ضرورة أساسية تتجاوز أهمية مكافحة الإرهاب
أكبر مصادر تلوّث الهواء هي المصانع والقطاعات المتدهورة التي تملكها الدولة، حيث تمّ تجاهل إجراءات السلامة الصناعية والبيئية، مثل محطات توليد الطاقة ومصافي النفط القديمة. ومن الجدير بالذكر أنّ أخطر وأهم سبب لتلوّث الهواء، والذي ساهمت الحكومة العراقية فيه على مدى العقود الماضية، هو حرق الغاز الطبيعي المرتبط والناتج عن عمليات استخراج النفط. هذا التصرف الهدّام يحدث نتيجة فشل الحكومة في تحسين استخدامه، هو ناتج عن أساساً، عن سياسات خاطئة للحكومات العراقية المتعاقبة.
سنويًا، يتم إهدار حوالي 17 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهذا يصبح عبئًا صحيًا واقتصاديًا على الشعب العراقي. كم من طن من الملوّثات الناتجة عن حرق الغاز يستنشقها الشعب العراقي سنويًا؟ توفي العديد من العراقيين بسبب سرطان الرئة، على الرغم من عدم تدخينهم، بسبب هذه الملوّثات الخطيرة الناتجة عن هذا الهدر. علاوة على ذلك، يصعب تقدير الخسائر الاقتصادية الناتجة عن ذلك، ويحصد ثمن ذلك الشعب العراقي في كافة الأحوال.