"حي بن يقظان" ورحلة الوصول إلى الخالق
الكثيرون منّا يعرفون قصص "ماوغلي" أو حكايات "روبنسون كروزو"، أو أفلام تحكي قصة الرجل العالق في جزيرة معزولة. ولكن، قلة من يعرفون، ربّما، أنّ لكلّ هذهِ القصص جذور تعود إلى الحضارة الإسلامية، ونعني بذلك حكاية "حي بن يقظان"، التي صيغت على يد أربعة من أعلام الفلاسفة المسلمين في أربع صياغات تختلف واحدتها عن الأخرى، إذ كتبها ابن سينا والسهروردي وابن طفيل وابن النفيس.
ولكن تبقى النسخة الأشهر من الحكاية مرتبطة بالفيلسوف والطبيب ابن طفيل الأندلسي، وذلك يعود إلى أسلوبه الذي اعتمد السرد القصصي، والذي لا يخلو من عمق ذي طابع فلسفي، ولهذا اعتُبرت أوّل رواية فلسفية في التاريخ.
تحكي القصة عن فتى اسمه حي بن يقظان أُلقي به في اليم عند ولادته، ليصل بعدها إلى جزيرة ويتربّى في كنف ظبي حتى الكبر. وخلال وجوده في الجزيرة، يحاول استكشاف العالم الذي يحيط به، وإدراك كافة المتغيّرات التي تحدث حولهُ، حتى يصل إلى فكرة الروح أو النفس عند موت الظبي، وأنّ الروح هي ضيف الجسم، فلا يغدو للجسم نفع بعد مغادرة الروح لهُ، ورجوعها إلى مكانها الأصلي.
كما توصّلَ بعد تفكيرٍ عميق إلى أنّ جميع المخلوقات خاضعة لسلطة موجود أعلى، حيث تُناقش قصة حي بن يقظان فكرة مهمة، ألا وهي أنّ الإنسان قادر على أن يصل بعقله وحواسه إلى فكرة وجود الخالق، المحرّك لهذا الكون. وهذا ما فعلهُ "حي" عندما قام بتفحص كلّ ما حوله من نباتات وحيوانات واستكشاف عوالمها، ليكتشف من خلالها العالم من حوله. استفاد ابن طفيل من كونه طبيباً وفيلسوفاً لطرح أفكاره الفلسفية، معتقداً أنّ الفلسفة والدين لا ينفصلان، بل هما في خطً واحد، وأنّ العقل قادرٌ على أن يصل إلى الحقيقة من دون توجيه مجتمعي أو ديني، حتى لو انعزل الإنسان في جزيرة وحده.
"حي بن يقظان"... من أهم الأعمال التي تجاوز تأثيرها الحضارة الإسلامية، إذ ترجمت إلى عدّة لغات، وتركت تأثيرًا واضحا على الفكر الغربي
كان لهذا الكتاب تأثير واسع في الفكر والنهضة الأوربية الغربية، واستمر تأثيره حتى الآن لدى المفكرين الغربيين. فعندما تُرجم هذا الكتاب إلى اللاتينية في القرن السابع عشر على يد المستشرق البريطاني أيدوارد بوكوك، أعطى للكتاب عنوان "الفيلسوف الذي تعلّم بنفسه". وبعد بضع سنوات، تُرجم الكتاب إلى الإنكليزية، وبعدها بحوالي عشر سنوات، نُشر كتاب قصة "روبنسون كروزو" الشهيرة جداً لدانيال ديفو، ولأنّ القصة تحكي أيضاً قصة شخص في جزيرة نائية، قِيل إنها تأثرت بقصة حي بن يقظان، لكنها بعيدة كلّ البعد عن المضمون الفلسفي والأهمية الفكرية لحي بن يقظان.
لقد أشار ابن طفيل في القصة إلى جملة من الإسقاطات الفلسفية المهمة، بدايةً باسم البطل (حي بن يقظان)، فنسب أنّ الحي هو ابن اليقظة، وليس العكس، بمعنى أنّ حياة الانسان تبدأ عندما يستيقظ ويدرك ويتوصل إلى الحقيقة، فيكون حيًا عند ذلك. كذلك فكرة وصول "حي" إلى مرحلة الاتصال والاتحاد مع الإله، وهي آخر مرحلة يمكن للفلسفة أن تصل إليها وتسمّى التصوّف. لقد استفاد الفيلسوف ابن طفيل من خلفيته الإسلامية في هذهِ النقطة من خلال قصة اعتكاف النبي في غار حرّاء، والتفكّر والتدبر في الموجودات.
في النهاية، وكما أشرنا سابقاً، فلقد كان ابن طفيل ينقل فكرته حول مفهوم أنّ الدين والفلسفة ليس بينهما تعارض للوصول إلى الحقيقة، ولكن طريق الفلسفة ربما يكون صعباً وشائكاً على أغلب الناس، ولهذا جاء الدين لوضع الشرائع والقوانين، وهذا هدف الدين بالنسبة لابن طفيل.
"حي بن يقظان" من أهم الأعمال التي تجاوز تأثيرها الحضارة الإسلامية، إذ ترجمت إلى عدّة لغات، وتركت تأثيرًا على الفكر الغربي، وخصوصاً في عصر النهضة الأوروبية.