حين يصير المثقف ظلاً للسياسي

10 يونيو 2024
+ الخط -

الباعث على كتابة هذه الكلمات قراءتي لتعليق صدر عن أحد مثقفينا بخصوص أحد المواضيع الراهنة. ما أثار انتباهي، وحيرتي في نفس الوقت، أنه ردد كلام أحد السياسيين الشعبويين المعروفين عالمياً بالحرف. ما جعلني أستعيد سؤالاً لطالما ألح على ذهني: ما شكل العلاقة التي ينبغي أن تربط المثقف بالسياسي؟ بالنظر إلى أهمية النموذجين في بناء مستقبل الشعوب والأمم.

إطلالة سريعة على التاريخ القديم يستشف منها أن العلاقة ما بين السياسي والمثقف دائماً ما اتسمت بالشد والجذب، ولا يخلو أي عصر من العصور من نماذج لهذه العلاقة المتوترة، سواء في تاريخنا الخاص أو في التاريخ العام، مع الأخذ بعين الاعتبار أننا هنا نتحدث عن المثقف بالمعنى العام (رجل القلم مقابل رجل السيف)، قبل أن يتبلور هذا المفهوم خلال القرن الـ19 في فرنسا مع قضية دريفوس، وما تلاها من تنظيرات خاصة مع الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي.

في العالم العربي، عُرف هذا المفهوم خلال عصر النهضة، إلا أن بناءه لم يكتمل إلا في ما بعد، على اعتبار أن رواد النهضة زاوجوا بين العمل السياسي والتنظير الفكري. الشيء نفسه حدث في المغرب خلال فترة الحماية والنضال من أجل الاستقلال، وبالتالي لم تكن هناك خصومة بين السياسي والمثقف. إلا أن نجاح الانقلابات العسكرية في مجموعة من الدول العربية أفرز واقعاً جديداً، تمثل في أن الكثير من المثقفين التحقوا بركب السلطة الوليدة وانبروا للدفاع عن سياساتها، وآخرون عارضوها، فوجدوا أنفسهم يقبعون داخل زنزانات السجون أو مضطرين للعيش في المنافي أو الانكفاء على الذات، عدا عن الذين تمت تصفيتهم.

لا أعتقد أننا بحاجة إلى المثقف المناضل، بمعنى حامل لواء مشروع سياسي أو المطالِب بالتغيير المجتمعي، فهذا الدور أصبح يضطلع به أكثر النشطاء على اختلاف مجالات اشتغالهم. أعتقد أننا بحاجة إلى مثقف يقف على نفس المسافة من جميع الفاعلين.

في المغرب، مع عدم نجاح الأحزاب الوطنية في الوصول إلى سدة الحكم (رغم أنها ظلت جزءاً من البناء العام للدولة) بقي جل المثقفين المغاربة خارج فلك السلطة، وبالتالي سمح لهم ذلك بالاستمرار داخل الأحزاب الوطنية والدفاع عن مشروعها السياسي المتمثل في إقامة نظام ديمقراطي أكثر عدالة. إلا أن الوضع لم يستمر طويلاً، إذ انسحب العديد من المثقفين المغاربة من الأحزاب السياسية الوطنية ليتفرغوا لمشاريعهم الفكرية، لعل أبرز هؤلاء عبد الله العروي والراحل محمد عابد الجابري وبقي آخرون لعل أشهرهم الراحل محمد جسوس.

وعلى العموم، بدأ المثقفون المغاربة يقيمون مسافة مع العمل السياسي. لتتطور الأزمة مع حكومة التناوب التي قادها الراحل عبد الرحمان اليوسفي، ليتهم المثقفون بأنهم خذلوا الوطن وقبلوا على أنفسهم بالانزواء في الظل، والعزوف عن تحمل مسؤوليتهم التاريخية على اعتبار أننا، وبالنظر إلى واقعنا المتخلف، في أمسّ الحاجة إلى المثقف الملتزم بقضايا الوطن والشعب، المحرض على التغيير. وبين الفينة والأخرى يستعاد هذا النقاش كلما مرت البلاد بأزمة تتطلب تدخل المثقف باعتباره الأجدر والمطالب بإعطاء اقتراحات وحتى حلول لهذه الأزمة أو تلك.

لكن هل هذا المطلب لا يزال يحتفظ براهنيته؟ بل هل ما زلنا بحاجة إلى المثقف أصلاً، مع التغيرات الكثيرة التي عرفها المجال العام المحلي والعالمي؟  

بالنظر إلى واقعنا، الجواب سيكون بالإيجاب حتماً، لكن أي نوع من المثقفين نحتاج اليوم. لا أعتقد أننا بحاجة إلى المثقف المناضل، بمعنى حامل لواء مشروع سياسي أو المطالِب بالتغيير المجتمعي، فهذا الدور أصبح يضطلع به أكثر النشطاء على اختلاف مجالات اشتغالهم (البيئة، السياسة، حقوق الإنسان، المجتمع المدني...) أعتقد أننا بحاجة إلى مثقف يقف على نفس المسافة من جميع الفاعلين داخل المجال العام، مثقف يقظ يرصد ويندد بالانزلاقات التي قد ترتكب من هذا الطرف أو ذاك، أو كما عبر عن ذلك أحدهم بالقول: "المثقف ضمير الأمة".