حين سألت عادل إمام عن صديقه عبد الحليم (3 من 3)
ـ أستاذ عادل، قرأت مرة لأحد الكتاب الذين عاصروا تلك المرحلة أن عبد الحليم حافظ سعى للاقتراب من شلة من الفنانين الشباب والنقاد والكتاب كنت من بينها، لأنكم كنتم مقتربين أكثر من مطرب منافس هو محرم فؤاد، هل كان هذا صحيحا؟
لا، غير صحيح على الإطلاق. عبد الحليم كان له أصدقاء من الكتاب الكبار والساسة والفنانين والشباب أيضًا. ولم يكن هاجسه هو أن يكون قريبًا من فلان أو علان أو أن يستعرض علاقاته مع الناس، كان هاجسه الوحيد فنه. ولم تكن علاقته أو صداقاته تهمه إطلاقًا. أنا مرة شاهدت حرم رئيس جمهورية تناديه وتكلمه وكان مشغولاً في سماع لحن، لم يرد عليها فورًا رغم أنه سمعها، ورد عليها بعد وقت رغم أنها كانت حرم رئيس جمهورية. ولم يكن هذا تعاليًا بل لأن همه وشغله الشاغل كان فنه. هل هذا تصرف يقوم به شخص تشغله العلاقات الاجتماعية، كان يعيش في قلق دائم على فنه.
ـ هل كان هذا القلق يدفعه أحيانًا لمحاولة تحطيم من يظهر لينافسه؟ هل كان جبارًا على حد تعبير أغنيته؟
لا... أعوذ بالله، لا... لا، عبد الحليم كان شخصية قوية رغم بنيته الضعيفة، لم يكن لديه وقت يتفرغ فيه لمحاربة أحد. أنا سألته ذات مرة: "إيه الناس اللي بيشتموك دول يا عبد الحليم"، كنت أقرأ كثيرًا من يهاجمونه ويتهمونه بأنه يتصنع المرض، وكنت قريباً منه وأرى حالته الصحية، وأراه رابطًا رأسه من ألم الصداع، ويعاني نزفًا في الكبد والمعدة، وينتظر تقارير الأطباء من لندن ويرقد في السرير. في ذروة المرض كان يصعب عليك رؤيته، كل هذا كان حقيقيا ولا يوجد فيه أي تصنع، كان في حالة مرضية تعيسة، كان يفيق من مرضه شهرين أو ثلاثة ثم يعود المرض مدة طويلة. ورغم كل هذا كانوا يهاجمونه، سألته عن هؤلاء فقال لي بهدوء "يا عادل، الناس دي لو حبوا يشتموا حد من جيلك هيشتموك إنت لإنك انت الكويس. لو شتموا حد غيرك ما حدش هيهتم. هم لازم يشتموا الكبير". فهمت قصده، كان يريد أن يقول لي "لأنني كبير فلابد أن أجد من يهوى مهاجمتي". كان ذلك يغيظني جدًا، لكن مع الزمن اكتشفت أن الذين شتموا عبد الحليم حافظ وهاجموه لا يزالون أحياء لكنهم ماتوا في أذهان الناس، أما عبد الحليم الذي مات فهو لا يزال موجوداً وحاضراً.
ـ وماذا عن محاولات صنع بدائل لعبد الحليم في حياته؟ هاني شاكر مثلاً؟
لا بدائل في الفن ولا أحد يأخذ مكان أحد. الفنان هو المسؤول عن نفسه، لا أحد يزيحه، البطل وحده هو الذي يحمل عوامل فنائه على حد التعبير الدرامي المعروف. المسؤول عن الصعود والهبوط هو الفنان. عبد الحليم لم يكن ليفشل لأنه كان يعيش حالة فنية في بيته وحياته. البعض يسأل لماذا لم يتزوج، في رأيي أنه لم يكن محتاجًا لأسرة، كان لديه أخته السيدة علية وكانت أختًا وأمًا. وفيما عداها لم يكن عبد الحليم لديه وقت لكي يتعلق بامرأة، لم يكن يشغله ذلك.
ـ لكن الكثيرين كتبوا عن قصص حبه وعلاقاته؟
لا... لم يحدث كثير مما يقال حوله، كان أقوى من كل ما يثار حوله، كان همه الوحيد كيف يصنع أغنية جديدة، كان مشغولاً بالمطبخ الفني الذي أقامه في بيته.
ـ عندما اقتربت منه، كيف كنت تتعامل معه؟ هل استفدت منه؟
حمدت ربنا أنني أصبحت ممثلاً لكي أعرف عبد الحليم حافظ. كان شيئًا جميلاً بالنسبة إلي، لكن لم يكن هناك غرض إطلاقًا من هذه الصداقة، ولم أسع لها، (يضحك بضيق) ثم أنا لا أحب الاسئلة من هذا النوع.
ـ لم أقصد أن تستفيد منه بل قصدت ما الذي تعلمته؟
لم أتعلم شيئًا محددًا، لا أعتقد أن الفنان يتعلم من الفنان، هي ليست مهنة نجارة، الفن لا يورث ولا أحد يعطي الآخر فنه. أعتقد أننا كنا مشتركين في أشياء، هو كان يغني من منطلق شجن وحزن، وأنا أعمل الكوميديا من منطلق الشجن والحزن. أعجبني في عبد الحليم أنه لم يغن أبدًا في الكباريهات والملاهي الليلية، ولذلك مات معدمًا وفقيرًا، وكل ما ترك وراءه مثل شقة أو سيارة كلام فارغ بالنسبة للملايين التي يجنيها المطربون. والذين كانوا حوله من الملحنين والمؤلفين أصيبوا بحالة من الإحباط وعدم التوازن بعد رحيله، رغم أنهم في حياته أبدعوا حتى في ألحانهم لغيره. بعد رحيله حدث لكل هؤلاء نوع من التشتت وعدم التوازن.
ـ بعد وفاته تعرض عبد الحليم لحملات متاجرة كثيرة، البعض كان يدعي أنه كان يوجهه، وآخرون تحدثوا عن ملفات حياته الشخصية والعاطفية والنسائية، كيف كنت تشعر إزاء هذه المتاجرة؟
لا يهمني مطلقًا كل هذا الكلام، ولا يهم الناس لأنني في النهاية أسمع أغانيه، ولن ألقي بالاً لمن يتحدث ويقول: "كان متجوز مين وبيحب مين، كل واحد عايز يملأ جورنال يقول زي ما هو عايز". في النهاية سيبقى عبد الحليم حافظ وحده. أذكر أنني دخلت مرة على ابني رامي وهو صغير وكان عبد الحليم يغني في التلفزيون، وكان حليم قد مات منذ سنوات، وفوجئت بأن رامي يبكي، كان عنده 5 سنوات تقريبا، سألته "مالك يا حبيبي"، قال لي "عبد الحليم حافظ" قالت له "ماله" قال لي "مات". وأخذ يبكي معه وهو يغني وكان يحب الغناء جدًا، إلى هذا الحد يصل تأثير عبد الحليم في طفل صغير من جيل مختلف. فدعك إذاً من أي أحد يشوهه.
ـ قلت في حوار صحافي إنك قاطعت مطربي الموجة الجديدة لفترة طويلة؟
نعم لأنني ظللت لفترة طويلة في معبد عبد الحليم الفني، ولم أكن أتصور أنني سأسمع أحداً غيره. لكنني فوجئت أن أولادي يستمعون إلى مطربين جدد ويحبونهم، عمرو دياب ومحمد فؤاد ومحمد منير، فأحببتهم، خاصة محمد منير جميل جداً. لعلمك عندما أسمعه أحس بالنيل والنخل والتمر، ومحمد الحلو، وعلي الحجار هذا أوركسترا في حد ذاته.
لا بدائل في الفن ولا أحد يأخذ مكان أحد. الفنان هو المسؤول عن نفسه، لا أحد يزيحه، البطل وحده هو الذي يحمل عوامل فنائه على حد التعبير الدرامي المعروف
ـ وهل من العدل ما تقوم به الصحافة من مقارنة هؤلاء بعبد الحليم؟
غلط، المقارنة خاطئة من أساسها. مصر دائما معطاءة وتنجب، وأنا متأكد أنك في نجوع مصر وقراها ستجد مؤلفين وموسيقيين ومطربين، يحتاجون إلى فرصة وبعضهم ليس في دماغه أن يحترف.
ـ الملاحظ على جيلك الذي اقترب من عبد الحليم أن عدداً من رموزه يصفون مطربي هذه الأيام بأنهم أقزام؟
لا... غلط، كيف يكونون أقزاماً وهناك ملايين يحبونهم، ويصنعون أفلاماً تحقق كل هذه الإيرادات.
ـ يجمع أيضًا بينك وبين عبد الحليم اتهامكما بأنكما فنانا سلطة بسبب وقوفكما معها في معارك سياسية معينة؟
عبد الحليم حافظ لم يغن لسلطة، كان يغني لمصر. غنى لمصر في عهد عبد الناصر والسادات، ولو عاش لكان غنى لمصر في عهد مبارك. كان يغني للوطن لا لرئيس الجمهورية. عندما كنا نمثل مسلسل (أرجوك لا تفهمني بسرعة) للإذاعة والذي اشتركت فيه مع عبد الحليم ونجلاء فتحي وكان من تأليف الكاتب الكبير محمود عوض، قامت حرب أكتوبر وهب عبد الحليم ليغني أغاني الانتصار. عايشت هذا ورأيت كيف كان يغني بصدق. كلنا وقتها صدقنا الانتصار رغم أننا كنا في حرب 67 ضحية للكذب في أرقام الانجازات التي لم تحدث، كنت في الجيزة يوم 5 حزيران/يونيو وقبل وصولي الى البيت كنا قد هزمنا حلف الأطلسي كله. لكن في حرب أكتوبر كان هناك نغمة صادقة في كل شيء حتى في الغناء وكان هناك احترام للعقل وقوة في الجيش وكل هذا عشته مع عبد الحليم ونحن في أجواء المسلسل وهو يذهب ليغني لبلده.
ـ لكن لماذا غنى لعبد الناصر باسمه ولم يغن للسادات باسمه بل بصفته عندما غنى "عاش اللي قال"؟
لم يكن معنى هذا أنه كان ضد حكم الرئيس السادات، لأنه لو غنى للسادات باسمه كان سيتعرض للهجوم من قبل الناس التي تحب الخبص والتجريح. كانوا سيقولون "شايف أهوه بيغني للسادات بعدما غنى لعبد الناصر". هو كان يغني لمصر ولم يكن في دماغه شئ، من هذا. الفنان أصلاً جمهوره الوطن الكبير، ولو كان ضمن هذا الجمهور رئيس دولة أو رئيس حكومة فهو في النهاية فرد معجب به.
ـ في المسلسل الإذاعي الشهير "أرجوك لا تفهمني بسرعة" عُرض عليك الاشتراك في غناء أغنية مشتركة مع عبد الحليم، ألم تخف من هذه التجربة؟ خاصة أنك كنت منسجماً في غنائك لأغنية "يالله نقرا المطالعة الرشيدة في أسرار الحياة السعيدة.. هبش يهبش ماحد حاسس.. لطش يلطش ماحد باصص"؟
(يضحك) كنت خائفاً طبعاً، بس "غلوشت وشوشرت" عليه في الغناء. هو كان يحبني جداً وكنا نتمازح كثيراً أثناء التسجيل، ونجح المسلسل. كان هناك جو من المنافسة.
ـ ما هي الأغنية التي تحمل ذكرى خاصة لك مع عبد الحليم؟
كل أغنيه لها ذكريات خاصة، لكن أتذكر في آخر حفلة له وكانت في نادي الترسانة الرياضي، وكنت استمع إلها وأنا في البيت. سمعته يغني أغنيته الشهيرة "أهواك" بتوزيع جديد حيث أدخل فيها الجيتار الذي كان يعزفه العازف الشهير عمر خورشيد. لم يعجبني دخول الجيتار، مش عارف ليه، لم أستسغه كمستمع، أحسست أنه غريب على الأغنية التي كنت أحبها. بعد الحفلة نزلت وذهبت إلى منزله كالعادة، كان بيته مزدحماً وبعد أن انفض الزوار وبقيت معه سألني عن رأيي في الحفلة، وكان هناك اختلاف في الآراء حول توزيع الأغنية الجديدة، وقلت له إنني لم أحب التوزيع الجديد ودخول الجيتار، واقتنع وبالفعل بعدها لم تُذع الأغنية بالجيتار حتى توفي.
ـ هل كان يأخذ رأيك أحياناً في عمله؟
أذكر أنه أخذ رأيي في فيلم (أبي فوق الشجرة) وأبديت إعجابي به وقلت له إن الفيلم سيظل طويلا في دور العرض.
ـ ألم يكن هناك مشروع لكي تشترك معه في فيلم؟
لا... أنا سمعت بعد أن توفي أنه كان يفكر في أن أشترك معه في فيلم، لكن هذا لم يكن يخطر في بالي، لم أكن أصدق أن ذلك يمكن أن يحدث.
ـ من أغاني ما بعد عبد الحليم، هل أحدثت أغنية ما الأثر الذي أحدثته فيك "على قد الشوق"؟
ليس الأثر نفسه، ولكن شيء قريب منه. أعتقد أن علي الحجار في أغاني "مسلسل الأيام" وصل الى قلبي. وأعتقد أيضاً أن محمد فؤاد في بعض أغانيه مس قلبي، أيضاً عبد المطلب أيضاً يمس قلبي.
ـ أستاذ عادل، كيف تصف علاقتك بالغناء؟
(يضحك) علاقة حمّام. أغني وأنا في الحمّام.