حينما يخطّ الكاتب روايته من نهاية حياته

28 يناير 2023
+ الخط -

استهلت الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف روايتها الأمواج بالعبارة الآتية: "الشّمس لم تشرق بعد، والبحر يمتزج بالسماء..". 

بداية رمزية تحيلنا إلى واقعها المظلم القلق آنذاك، وإلى البحر الذي كانت تسمع وقع أمواجه ولا تراه طيلة أيام، فأصوات ارتطام مياهه مع السّاحل تكفي لإغلاق الأذن من فرط الإزعاج والهذيان، إلا أنه خيّل إليها جماله وعمقه وهو يمتزج مع السّماء، تلك الزرقة المتوهّجة استقطبتها في خريف العمر إلى الإتيان؛ لِيمتزج الجسد ويتفاعل معها بغية تحقيق الخلود الأعظم والنبوءة المخفيّة عنوة بين أسطر ما كتبته منذ زمن بعيد، ومن بينِها رواية "الأمواج".

بدت الرواية كأصابع المكفوف، التي لا تميز مفاتيح البيانو، أكانت سوداء أم بيضاء، أو هي كالضياء الورديّ المنبعث من المصباح كما ترى فرجينيا، من الصعبِ الإمساك بها، حيث يقول الفرد المتنهد عند قراءتها: هل هذا هو كل ما هنالك؟ نتيجة صعوبتها وسردها الشّائك الملتبس، فضلاً عن تعدّد شخصيّاتها التّائهة في بحرِ الوصف، لا يستطيع القارئ اللّحاق بالأحداث وجريانها، أو حتّى التّأمّل والتّحديق في الشّخصيّات الغارقة، وبجوارِ هذا اللّغة المكثفة الفخمة كأنَّها عاصفة هوجاء تجرف المتمعّن فيها، ولا تقوده إلى الرّتابة المميتة بسرعة، بل إلى المغامرات والعذاب.

يمكن القول إن الرواية منظمة على قدر كبير من الجودة والمهارة للعقلِ النّاقد، أي القارئ غير الاعتيادي، أما بالنسبة للذهن العادي والمستوى غير العالي من القراء، لا سيما ممن لا ينفتح على الاختلاف والتنوع التّجديدي، فهي عبثٌ متعب ونهر مضطرب بائس، أو بالأحرى بارد لا محال، إذ يتوله بالأمواج الحاذق المتبصر والبحار من دون إقصاء، إذ المبحر الدّائب المعتاد على الصعاب لا يخشى التموجات والهيجان، ولا يفضي به الحال عندما يخوضها إلى رؤيةٍ مهشّمة يعلوها الضباب، إنما يتسكع بينها بارتياح يصحبه الابتهاج الشديد المرجو.

 الحياة وانشطاراتها كالسرد المسترسل بالنّسبةِ لفرجينيا وولف، لا تنقطع ولا تستريح لبرهة، فكابدتها بكتابة ناضجة مماثلة لوتيرتِها الحثيثة وإفرازاتها المواربة نوعاً ما

أفكار فرجينيا النيرة، المدسوسة بين مجريات الأحداث أو المُعلقة على لسان أبطال الرواية، هي أفكار شعرية في جوهرها بلا شك، تغدو صافية سليمة ونابعة من عقلية رهيبة، فضلاً عن إحساس مبرح خطير وقلب يشعر بالأشياء قبل وقوعها، إلى جانب عينيها الفريدتين، ذواتي النظر الصائد الحاد، الّلتين تريان العجائب والغرائب مما تجهله العامة وتغفل عن اقتناصه، روايتها ليست نتاج عقل مترهل ساذج أو يخلو من التفكير الواعي، بل أنتجت نصوصاً ببراعة مذهلة ومبهمة، إن دلت على شيء إنما تدل على روح مثقفة مهذبة، وقوة ملاحظة وفكر واعٍ فطن، متجنب الحياكة الكتابية البدائية والمصطنعة التي تشبه القطع المرقعة أو كقول هيلين كيلر: "لحاف مرقع!".

الصورة
فرجينيا وولف
تغدو عزلة فرجينيا الشّاحبة جلية على شخصياتها التي أحبّتها حباً جمّاً (Getty)

يبدو لي أن الصعوبة تكمن في انسياب أفكار فرجينيا ومشاعرها كالنهر المسرع بلا منهجية، تخطيط وتنظيم؛ لذا أطلقوا على ما تكتبه (تيار الوعي)، تشبيهاً باسترسال حركة النهر من دون انقطاع طويل، تعرجات وتوقف مفاجئ، الحياة وانشطاراتها كالسرد المسترسل بالنسبة إليها لا تنقطع ولا تستريح لبرهة، فكابدتها بكتابةٍ ناضجة مُماثلة لوتيرتِها الحثيثة وإفرازاتها المواربة نوعاً ما. فرجينيا لم تصبح مبدعة، إنما ولدت هكذا مبدعة بارعة قطعاً، وهذا سر انحدارها إلى الرحيل المترع بالموت فيما بعد، وشخصيتها الفنّية الحساسة، وبمعنى آخر اللماحة وعقلها الفذ السائح، المتوغلة بعيداً في أعماق الأشياء، والناظرة إلى شرفاتها الموحشة وحدها من قتلتها، ودفعت بجسدِها النّحيف إلى سطوةِ الموج الثائر في النّهاية.

تقتحم فرجينيا صفحات الرواية الأولى بمحاورةٍ عن العالم أو تحاورُ العالم عبر شخصيتها "نيفيل". إنّ كلّ حدث يتمتع بصياغة معينة يمتاز بِها عن غيره من الأحداث في تحديد المعنى أو الشيء المختلف المراد إيصالهُ للشخص المتعرض للحدث، ثمّة نظامٌ يقوم عليهِ العالم وليسَ طائشاً تائهاً كما نظن على الأغلب، هناك مفارقات نخطو على حافاتِها الراعشة لا ريب، وهي مجرّد بداية، حيث تنطلق في بداية الرواية من بدايات الحقائق الحياتية الأساسيّة رغم الملامح النهائية المضمرة هنا وهناك من أيّامِها الأخيرة.

بعد صفحات عدة من هذه الرّؤية توضح الأمر للعيان مرة أخرى وتثبت بأن العالم رغم نظامه إلا أنه يترجرج، غير ثابت ولا رصين، متى ما تلتفت بين أروقته تجده إسراعاً وفوزاً، إذ يتراقص العالم ولا يهدأ أبداً، قد يكون يتماوج كشجرة في الخريف المتبجح، التي عليها أن تجمعَ بهلع ما يمكن جمعهُ من أوراقها المتزحزحة المتساقطة في الفضاءِ الفسيح فوراً. عدت الحياة بأكملها مغامرةً صبيانية مبهرجة، نتعذب فيها جرّاء الفرار أو تحمّل المسؤولية والعبء.

فرجينيا لَمْ تصبح مُبدعةً، إنَّما وُلِدت هكذا مُبدعة بارعة قطعاً، وهذا سرّ انحدارها إلى الرّحيل المُترع بالموتِ فيما بعد

توقفت أيضاً عندَ خصوصيّة الأشياء، مستندة في ذلكَ إلى صورتِها العاطفية، شبه الفلسفيّة المغايرة، التي تعتقد أن المرء هو من يمنحها قيمة وجمالية ويسهم في تحطيمها أو إنعاشها، فكمالية الشيء تنبع من نفسه أولاً، ومن ثم تتشكل بهيئة تامة مع الآخرين، ما يُنتج عن فقدانهم وتبدلهم تغيراً مهيباً عند كلا الطرفين بشعور أو بلا شعور ساعتئذ؛ لذا قالت: "لو أن لامبرت رأت تلك الزهرة فستتبدل الزهرة، أنى ذهبت الآنسة لامبرت تبدلت الأشياء تحت عينيها، ومع هذا فحين تذهب لا يكون الشيء هو ذاته مرة أخرى!".

تغدو عزلة فرجينيا الشّاحبة جلية على شخصياتها التي أحبّتها حباً جمّاً وسارت بها خلف الوحدة الصامتة المصغية إلى هدير البحيرات الغائمة، فها هي إحدى شخصيات الرواية الخائفة من ضياع هويتها المغلولة في الزحام وإعاقة فيض الكيان واضمحلال المقدرة على فهم ما يتحلى ويتزين به من الطبائع والنماذج المتناقضة داخله، وعليه تروم متذمرة قلقة من الدمع وعدم السيطرة على الأوجه المتنوعة المحمولة مع الظاهر، فهي ليست واحدة بل متعددة متقلبة ومعقدة التركيب، قائلة بتوق إلى الاختباء والخلوة: "أريد عزلة أرفع الغطاء فيها عمّا أملكه.." أو "أرى أن أحسن التعابير إنما تتكون في العزلة".

تلتمع الجمل الشعرية النّاعمة وتلوح في كل تعبير مرهف، نتذوقه وتدهش به شفاهنا، نحو: "سأسقط غصناً في الماء كقارب نجاة لبحار يغرق" و"القمر يجري خلال البحار الزّرق وحيداً"، وعليه تصبح فرجينيا شاعرة وجوديّة تعسة وبراقة في آن واحد، كما قالت تماماً على لسان "لوريس" في رواية "الأمواج": "على هذه الجدران نقشت أسماء بعض الشعراء التّعساء، اسمي سيكون بينها". إعلان طبيعي، فالإيقاع بالنسبة إليها شيء رئيس في الكتابة، لم يثقب السنا الأمواج كما توقعت، إذ وحدها من اخترق الموج وتكسر معه..

ملاك أشرف
ملاك أشرف
كاتبة وناقدة أدبيّة، من مواليد ٢٠٠١، العراق. شاعرة تنسجُ الشِّعر المنثور. بكالوريوس أدب عربيّ من كلّية الآداب في إحدى جامعات العراق، قارئة وناقدة للأدب الإنكليزيّ مع ترجماتٍ مُعرّبة لهُ. ولها مقالات عدّة في صحيفةِ الصّباح العراقيّة. تعبّر عن نفسها بقول مارسلين فالمور: "يا زهرةً بهذا العالمِ الغريب/ أنا ذا أخبّئُ نفسي في الظّلال/ ومثلكِ استسلمُ مهجورةً للنهار".