حياةُ راقصة الباليه المُثيرة للجدل
عندما نمضي في عوالم مواقع التواصل الاجتماعي، يتلاقى مصيرنا مع محتوياتٍ مختلفة، حتى وإن لم نكن نتابعها. يمكن أن يكون ذلك بسبب تفاعل أحد المتابعين الذين نتابعهم مع هذا المحتوى. هذا ما حصل معي، حينما تعثرت بتغريدات نقديّةٍ تنتقدُ صانعةَ محتوى "BallerinaFarm" (مزرعة راقصة الباليه)، هانا نيلمان، باعتبارها امرأة مُضطهدة بالنسبة للبعض، لأنها تخلّت عن حلمها لتصبح راقصة باليه، مسخّرةً نفسها للرب وعائلتها باختيارٍ منها. تُعرِّف نيلمان نفسها بصفتها أمّاً لثمانية أطفال أنجبتهم في المنزل دون اللجوء لأيٍّ من مسكّنات الألم، تقوم بتدريسهم جميعاً منزلياً، ومزارعة مُغرمة بمزرعتها، وزوجة مُحبّة، وسيّدة أعمال صاعدة، بحسب ما تظهره وتعرضه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وجدتُ أنّ قصتها أثارت ضجةً كبيرة بعد مقالة نشرتها إحدى الصحافيات النسويات بعد مقابلة أجرتها معها وعائلتها، متسائلة عمّ إذا كانت نيلمان وأمثالها من صانعات المحتوى، يمثلن نموذجاً جديداً لتمكين المرأة أم ضربة قاصمة للنسوية، علماً أنّ مصطلح "Trad wive" أو الزوجة التقليدية، يعبّر هنا عن النساء اللواتي اخترن أن يكن ربّات بيوتٍ، ملتزمات بالأدوار التقليديّة الأنثويّة، وغالباً ما يتبنيّن التيار اليميني المحافظ.
الحكم على الشيء فرع عن تصوّره
قبل البدء بتوضيح المنطلقات النسويّة المعارضة لطريقة عيش نيلمان، لا بدّ من أن نتطرّق لممارساتِ الإنجاب وتربية الأطفال في العقيدة المورمونية التي تنتمي إليها نيلمان. فوفقاً لمعدلات الإنجاب في الولايات المتحدة الأميركية، تمتلك طائفة المورمون أعلى معدلات الولادة، إذ تُعدُّ العائلة ركناً أساسياً من أركان الدين لديهم، ويُتوقع من النساء أن يكن مربّيات للأطفال، بينما يتولى الرجال رئاسة الأسرة وتوفير الاحتياجات الماديّة والروحيّة للأطفال. وتماشياً مع الاعتقاد المورموني، بأنّ السماء مليئة بملايين الأرواح في انتظارِ جسدٍ دنيوي، فإنّ وسائل منع الحمل والإجهاض محظورة لديهم إلّا في الحالات التي تُشرّعها الكنيسة. وهذا ما أشارت إليه نيلمان، بأنّها فعلت ما فعلت، حذواً بوالداتها التي أنجبت تسعة أطفال، وقامت بتدريسهم منزلياً، والاعتناء بكلِّ شؤون المنزل بنفسها دون مساعدة أحد.
أحقيّة المرأة في أن تختار دورها الجندري
الأمر يتعلّق بوجهة نظري بمسألة المعرفة، والعلم، وإمكانية الاستقراء التام الواجب على المرأة أن تتخذه قبل أن تقرّر منهجها في الحياة. أمّا فيما يخصُّ الحكم على الأشخاص وطريقة عيشهم فيتعلّق بمطلِق الحكم؛ إذ إنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، وهذا يقودنا إلى أنّ بعض الأحكام التي أُطلِقت على نيلمان كانت مُتحيّزة ومحدودة بتلك التصوّرات الفكرية ومحدّداتها الأيديولوجية. فإنْ افترضنا أنّ نيلمان قد اطلعت على بعض التيارات النسويّة وما تطرحه، واختارتْ بعد ذلك أن تعيشَ وفقاً للمعتقدات الدينية التي تنطلق منها؛ فلمَ لا يحق لها أن تعيش بالطريقة التي تُناسبها، ما دامت قد اختارت ذلك بملء إرادتها.
هنالك تباينات وتعريفات مختلفة عمّا تعنيه "النسويّة"
أمّا الافتراض الثاني، فلنفترض أنّ نيلمان، ليس لديها المعرفة الكافية، ولا القدرة على تحليل واقعها الاقتصادي والاجتماعي، وتحليل الأدوار المنوطة بالمرأة تاريخياً حتى وقتنا الحاضر، أي في عالمنا الما بعد حداثي، ممّا جعل منها جاهلةً جهلاً مركباً؛ إذن هل يحق لنا أن نقرّر عنها، ما يجب أن تعلمه، وما يجب أن تفعله، وما يجب أن تختاره من الأدوار المطروحة في اللحظة الراهنة؟
يدفعنا الافتراضان للسؤال الذي طرحته الصحفية على نيلمان "هل أنت نسوية؟"، وجوابها "أشعر بأنّي نسوية"، ثم تعبّر عن عدم معرفتها لمفهوم "النسوية" الآن، مشيرةً إلى إشكال عدم وجود مفهوم وتعريف جامع مانع لما يعنيه مصطلح "النسوية"، حيث بالنظر إلى مختلف التيارات النسويّة في عالمنا المعاصر، نرى أنّ هنالك تباينات، بل في بعض الأحيان تعريفات مختلفة تماماً عمّا تعنيه "النسوية" بناءً على المنظور الذي تنطلق منه النساء.
حتمية أشكلة اختيار الآخر
وهنا يمكن القول إنّ أسباب التشابك اليومي، وحتمية النقد الدائم، وإطلاق الأحكام جزافاً، كلّ بحسب مرجعيته والأيديولوجيا التي ينطلق منها، لاختيارات الآخر، خاصة إن كان الآخر ذاك أنثى، توضّح لنا أنّ حريتنا لا بُدّ أن تُقوّض من خلال هذا الآخر، والذي هو في حال نيلمان، يتجسّد في متابعيها على وسائل التواصل.