رواية المفاهيم والتصوّرات... "الأمير الصغير" نموذجاً

09 يوليو 2024
+ الخط -

لو أخبرتك عن أميرٍ صغير بشعرٍ ذهبيٍّ ووشاحٍ أصفر، غادر كُويكبه الصّغير نحو الأرض، ليلتقيَ بطيارٍ داخل صحراء ويروي له عن رحلاته إلى عدّةِ كويكباتٍ وزهرته التي يهوى، والراشدين الذي يمتعضُ منهم، ومن عجزهم عن الخيال، هل كنت ستصدّقني؟ 

غالباً لن تفعل. ولكن ربما ستصدّقني لو أخبرتك عن الكتاب الأفضل في القرن العشرين، والذي يتحدّث عن أميرٍ صغير من نسجِ خيال كاتبٍ فرنسي يدعى أنطوان دو سانت إكزوبيري. 

وأنت أمام هذا الكتاب تملك خيارين؛ فإن تنوي الدخول إلى عوالم هذا الكتاب عليك أن تصدّق القسم الأوّل، والأصوب أن تسمح للطفل الذي كنت عليه بأن يصدّق خياله؛ تماماً كما كان يفعل عندما حادث الحيوانات البلاستيكيّة داخل غابةٍ فوضويّةٍ أقامها في إحدى زوايا المنزل. وإن كنت مصراً على تصديق القسم الأخير فحسب، فذلك سيجعلك تقرأ، وتدرك المفاهيم بناءً على منظومتك المعرفيّة المتشكلة عبر الزمن. وأمّا، إن كنت مهتماً بالسّياسة، غالباً ستدرك مفاهيم الرّواية داخل إطارها السياسيّ وتحاول الرّبط بين أحداثها والأحداث التي لعبت فيها فرنسا دوراً مهماً خلال الحرب العالميّة الثّانية. وإن كنت مهتماً بعلم النّفس وفرويد وتلميذه كارل يونغ، غالباً ستدرك المفاهيم داخل إطارها النّفسي، وتحاول التعرّف إلى الطفل الداخلي الذي منحه إكزبوري حريّته. أمّا إن كنت مهتماً بالفلسفة، غالباً ستدرك المفاهيم داخل إطارها الفلسفيّ وتفرّق بين تعريفاتِ الفلاسفة لمفهومٍ واحد، وإن كنت مهتمًا بالأدب، غالباً ستدرك توظيف الحوار على لسان الحيوان ومقاربة ذلك إلى الخرافة التي سبق لكاتب القصص الخرافيّة، جان دو لافونتين، بتوظيفها خلال تاريخ الأدب الفرنسيّ. 

عملية إدراك المفاهيم في إطارها الأقرب لمعارف المتلقي واهتماماته، أشبه بتعبير إكزوبيري حول نظرة الناس العاديين للنجوم؛ "أولئك الذين يسافرون، النّجوم هي بمثابة مرشد لهم. وبالنسبة للبعض الآخر هي لا تعدو أن تكون أضواء خافتة، في حين هي مشكلات بالنسبة لفريق ثالث، وهم العلماء. أمّا بالنّسبة لرجل الأعمال، فقد كانت تمثل الذّهب".

التّدجين يجعلك تنظر إلى المفاهيمِ والأشياء بنظرةٍ مختلفة عن باقي العالم

تتقاطعُ رحلةُ الأميرِ الصّغير لكوكبِ الأرض مع طيّارٍ يحاول إصلاح طائرته التي تعطلت في الصّحراء، وتبدأ هذه الصّداقة النّقية بمحاولةِ رسم الطّيار لخروفٍ ينال إعجاب الأمير الصّغير، وعند عجزِ خروف الطّيار عن إعجابِ الأمير الصّغير استبدل الطّيار صورة صندوق بصورة الخروف، ولأنّ خيال الأمير الصّغير تجاوز إدراك العلاقة بين اللغة والحقيقة نحو اللغة والتّصوّر؛ أعجبه الخروف الذي بداخل الصّندوق؛ لأنّه ببساطة يريدُ خروفاً، فتصوّر خروفاً، وهذا دليل وجوده، "وأن المرء إذا كان يريد خروفاً فذلك دليل على وجوده". ومن هُنا يكشف إكزوبيري عن فلسفته المنافسة لفلسفة ديكارت تجاه الوجود؛ فدليل الوجود لديه هو الإرادة والإرادة مقرونة بحدٍّ كبير بالتّصوّر القادر على إبصار الخروف بداخل صورة الصندوق.

يروي الأمير الصغير لصديقه الطّيار عن رحلته التي وسعت ستة كواكب وسابعها والأرض، وعن المفاهيم التي مرّ بها، والتي نظنّها واضحة ومعروفة، وحين نُسأل عنها أو نفكّر بها يتضح أنّها ليست كذلك؛ فالكوكب الأوّل يعيش عليه ملك يظن كلّ النّاس رعاياه وسرعان ما يحاول فرض سلطته على الأمير الصّغير، ولكن مفهوم  سلطته أنّها "سلطة تقوم أولاً على العقل"، يناقض المثل الألمانيّ الشائع؛ "حيث تكون القوّة، يهرب العقل"؛ فمفهوم السّلطة يحتمل الاختلاف بين الناس ولكنّه شيء عبثيّ كما يتصوّره الأمير الصّغير .

بالإضافة إلى عبثية السّلطة يعرض إكزوبيري عبثية الغرور بتصوّر الأمير الصّغير، واستغرابه من حبّ المغرور (صاحب الكوكب الثّاني) لإعجاب الناس به؛ "أنا معجب بك، ولكن فيم سيفيدك هذا". 

زاد استغراب الأمير الصّغير من عالمِ الرّاشدين وإدراكهم للمفاهيم عند زيارته للكوكب الثّالث، وهو الكوكب الذي يتطرّق لمفهوم الأخلاق وبساطته عند الأمير الصّغير؛ فاعتبر السّكير غريب الأطوار لأنّه يشرب لينسى أنّه يشرب وعليه ببساطة أن يمتنع عن الشرب، يقترب تصوّر الأمير الصغير. من تعريف أفلاطون للأخلاق على أنّها "كبح شهوات الإنسان والتّسامي فوق مطالب الجسد بالالتفاتِ إلى النّفس والرّوح"، وكبح الشّهوات بدى بغاية البساطة عند الأمير الصّغير.

مفهوم السّلطة يحتمل الاختلاف بين الناس، ولكنّه شيء عبثيّ كما يتصوّره الأمير الصّغير 

انتقل إكزوبيري لعرضِ مفاهيم التّملك والجديّة متمثلةً برجلِ الأعمال الذي يظن أنّه يملك النّجوم لأنّه يحصي عددها ويدوّنه دون أن يكون هذا الفعل مفيداً لها، ولكنّ التّملك بتصوّر الأمير الصّغير أبسط من ذلك "إنّ امتلاكي لبراكيني وزهرتي أمر مفيد لها، لكنّك أنت غير مفيد للنجوم"، ويرى رجل الأعمال نفسه شخصاً جاداً لابتعاده عن كلّ ما يعني الرّوح والقلب، ولأنّ الأمير الصّغير عكس ذلك؛ يحبّ مشاهدة الغروب وتذكّر زهرته، فأحبّ البقاء على الكوكب الخامس على الرّغم من عبثية ما أدركه من عملِ مشعلِ المصباح بإعادةِ تشغيله مراراً بحجة "التّعليمات" دون التّفكير بجدوى هذه التعليمات، وهذه عادة الراشد حين يخضع لسلطةِ مجتمعٍ يحاول تأطيره كما المعتاد. 

ظهر إشكال فهم المفاهيم عند الرّاشدين جلياً في الكوكب السّادس الذي يعيش عليه جغرافيّ يعرّف عن نفسه بمعرفةِ أماكن الصّحارى والبحار والمحيطات، ولكن عندما سأله الأمير الصّغير عنها كان جوابه: "لا أستطيع معرفة ذلك".

يوجد العديد من الشخصياتِ على الأرض مُشابهة للشخصياتِ الستة التي قابلها الأمير الصّغير على الكواكب التي زارها، وعند زيارته إلى الأرض تعلّم الأمير الصّغير من صديقه الثّعلب ماذا يعني "التّدجين"، والتّدجين يجعلك تنظر إلى المفاهيم والأشياء بنظرة مختلفة عن باقي العالم، فلو أعدنا قراءة المفاهيم التي وردت بالرواية؛ السّلطة، الغرور، الأخلاق، التّملك، الجديّة، التّعليمات، الجغرافيا... سيتبادر المفهوم نفسه في ذهن السياسيّ كما هو من منظور السّياسة، وفي ذهن الفلسفيّ كما هو من منظورِ الفلسفة، وفي ذهن عالم النّفس كما هو من منظورِ علم النّفس...الخ وهكذا حسب ما مرّ على الفرد من معارفٍ وخبرات. وسيتبادر في ذهنِ الطفل ببنيّةٍ مبسّطةٍ قائمةٍ على التّصوّر الذي يفتقر إليه الراشد، يكتشف ما يريد بفعل ما يسأله من أسئلةٍ ثم يقوم بربطِ الإجابات بعضها ببعض من جهة، وبتصوّراته من جهةٍ حتى يصل إلى فهمه الخاص. 

ومن هنا إليك بعض من أسرار الأمير الصّغير: لا تتخلَّ أبداً عن ملاحقةِ الأسئلة، ولا تنظر بعينيك فقط بل بقلبك أيضا، لأنّه "لا نبصر جيداً إلا بالقلب، والشيء المهم لا تراه الأعين"، واملك من التّصوّرات ما لم يملكه أحد "وأنت ستملك من النجوم ما لم يملكه أحد". 

والآن إليك سرّي أنا الأوّل: إن كنت تقرأ الآن هذا النّص، فذلك يعني أنّني ملكت من هذه الكتاب ما لم يملكه أحد، وإليك سرّي الآخر: سرّي الأوّل يعني أنّه أنا أيضاً دجنني صديق! 

سارة بلاطية
سارة بلاطية
مدونة وكاتبة مُهتمة بالنّقد والرواية. مُلتحقة بقسم اللغة العربيّة في جامعة النّجاح الوطنيّة؛ بغرض دراسة اللغة بشكلٍ عام والنّقد والرواية بشكلٍ خاص. تعبّر عن نفسها بالقول "أَشْعَلتُ قِنْديلِي مُبكِّرًا؛ لأبحثَ عن السّراديبِ التي سَتَتَّسِعُ لِلُغْزِ التّأويل ومُرافعاتِ المعنى".