حنين إلى مجد زائل
يقول المثل المغربي "الشيخ اللي كنا نترجاو بركتو دخل للجامع ببلغتو". ونقول بالعربية الفصحى إنّ فلاناً الذي وضعنا فيه كل آمالنا وثقتنا قد خذلنا وخيّب توقعاتنا. ولكن الخيبة المؤلمة التي تصيب الإنسان في صميم روحه هي من صنع يديه، هو لا غيره. فنحن، في السياسة كما في الحياة اليومية، نصنع آلهة نعبدها ونقدّسها كما كان يفعل العرب في زمن الجاهلية، ثم ننتفض ونستشيط غضباً إذا انزاح الستار عن حقيقة أبطال من صنع خيالنا الجامح، أو كما فعل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، نجوع فنأكل آلهتنا.
من صدام حسين إلى معمر القذافي، وغيرهما من الزعماء الذين هجيناهم وهم على قيد الحياة لنصنع مجدهم بعد موتهم، يظلّ العقل العربي حبيس الأوهام والحكايات البطولية. ربما طمعاً منّا بأن نجد صلاح الدين الأيوبي الذي يمسك بأيدينا ويخرجنا من ظلمات الاضطهاد والخضوع إلى نور المجد التليد الذي كنا نتمتع به يوماً.
كان "اليزيد" في مخيلته بطلاً قومياً، يشبه إلى حد كبير أبطال العرب القدامى الذين عُلقت عليهم الآمال والأحلام وعادوا من حروبهم خائبين في نهاية المطاف. كان ينتمي لجمع مثقفي القهوة، أولئك الذين ينتابهم الحنين للأندلس وهم يدفنون القدس كلّ يوم، يقتلونها بصمت لاذع وخضوع ذليل وتواطؤ نذل مع الكفة الراجحة لقوى الشر، ذلك لأنهم منذ أن جاؤوا إلى الوجود وهم يُلَقَّنُونَ الطاعة العمياء حتى ما ظلّ لضمائرهم صوت، فتشابهت على أسماعهم أصوات تنادي بنصرة الحق وأخرى يصدح بها الظالمون.
لكن هذا التناقض المرضي والنفاق الفكري كان يزيد الركون إلى هذا الرجل الغريب متعة، فتراه تارةً يسبّ العمالة الأجنبية وخونة الشعب والوطن ثم ينتابه الحنين لسنوات الرصاص والدولة المخزنية، فيباشر في اجترار ذكريات الثمانينيات وأيام يسميها بأيام النخوة والعز. كان يدري في قرارة نفسه أنّ كل أيام الله سواسية في هذا البلد التعيس، ولكنه كان يهوّن على نفسه بإضفاء طابع رومانسي على ماضيه الذي كان يزدريه أولاد اليوم، "البراهش"، كما يطلق عليهم هو ورفاقه من المحاربين القدماء.
"أنتم أيها الأطفال، كيف لكم أن تفهموا في الموسيقى والأدب و الشعر؟ لقد ذهب الفن مع أصحابه رحمهم الله، ولم يتبق إلا التلوث البصري الذي حاشا لله أن يكون فنا!" يحرص على رفع صوته في نهاية جملته الدراماتيكية ويجرّ حقيبة يده المهترئة، مغادراً المقهى، وهو لا يلوي على شيء.
في السياسة كما في الحياة اليومية نصنع آلهة نعبدها ونقدّسها كما كان يفعل العرب في زمن الجاهلية
تتحقّق الأحلام أحيانا في أكثر الأماكن غرابة، وتحدث في أوقات غير متوقعة البتة. كانت موغادور مدينة الأحلام والحالمين، تحبك أزقتها أقداراً وقصصاً لا تخطر على أحذق العقول وتفاجئ أهلها بحبكة مستبعدة ومباغتة. ولهذا عاش اليزيد ولداً سعيداً في طفولة ملؤها الأحلام والتطلعات التي بدت للشخص العادي بعيدة المنال، في حين كان يعلم (وهو الصويري الأصل والمولد) بأن لا شيء مستحيل في موغادور. كان الحصول على وظيفة عمومية في مجال التعليم حلمه الأكبر وقد تمكّن من تحقيقه قبل أن يبلغ الثلاثينيات من العمر.
لا يزال رغم مرور سنين عديدة يتذكر الأطفال الذين تتشابه وجوههم تحت قيظ الشمس الحارقة وهم يمشون لمسافات طويلة محمّلين بسلع مختلفة، يحاولون جذب انتباه المارة الذين لا يسعفهم ضجيج الحياة وازدحام أوقات العمل وأوقات الراحة ليتوقفوا ولو لبضع دقائق ويلتفتوا لهؤلاء الأطفال. يراقبون مرتادي الثانوية التأهيلية (محمد الخامس) وهم يتدافعون أمام مدخل المؤسسة، وتتعالى أصوات ضحكاتهم بصخب طفولي إلى أن يرن جرس الدخول أخيراً. أحلامهم في قلوبهم مخبأة، وبساطة أمانيهم موجعة. بينهم من يحلم بفراش دافئ وعائلة محبة، ومنهم من يحلم بوجبة شهية تذهب عنهم الجوع الذي لا يكاد يفارق أمعاءهم الخاوية.
لا يزال هذا المشهد محفوراً في ذاكرته بعد كلّ تلك السنوات التي قضاها في المدرسة الثانوية، كان ذلك المنظر المثير للشفقة دافعه الوحيد ليدرس ويجد ويجتهد في الفصول الدراسية المتميزة بكآبة أجوائها. كانت تلك السنة فرصته الأخيرة، ولو أنه كرّر السنة مرة أخرى لكان مصيره شبيهًا بمصائر هؤلاء الأطفال المساكين. وعلى عكس توقعات الأساتذة والزملاء، والأهل والأصدقاء، نجح اليزيد بميزة حسن. كانت مثابرته تلك نابعة من خوف دفين أيقظه فيه ذلك الجمع الغفير من الأقدام الحافية والأفواه الجائعة.
بشير الفاسي، حليمة المريني، لبنى عبد الحي، ليلى كوهن، محمد شاكر، عبد الله الإبراهيمي... كانت تطفو هذه الأسماء في ذهن "اليزيد" كلما استرجع ذكريات المدرسة الثانوية والمغامرات المحفوفة بالمخاطر التي خاضها في الأيام الخوالي رفقة زملائه في ثانوية محمد الخامس بحي التلال، والتي عاد إليها مدرسًا بعد أن كان تلميذاً لا حول له ولا قوة.
هؤلاء كلهم أصبحوا جزءاً من ماضيه الذي يتفنّن في تجميله لكلّ منصت يجده على استعداد لأن يعير مسامعه لأستاذ متقاعد لا شغل له ولا مشغلة، سوى النبش في قبور الأموات من الرفاق واسترجاع تاريخ المقاومة المسلحة في المغرب ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني.
كلّ شيء زائل لا محالة، حتى القوة التي يتباهى بها الإنسان في شبابه محكومة بالزوال
يسرد "اليزيد" بحماسة تفاصيل مغامراته التحريرية على شبان قادهم ملل الحياة اليومية والروتين الركيك إلى ارتياد مقاهي الإنترنت. يقول: "كنا سبعة رجال، كل منّا يحمل في يده بندقية مستعدين لإفراغ كلّ سلاحنا في وجه العدو. لم نكن خائفين من كثرة عدد جنود جيش العدو وقلّة عددنا، ووفرة خبرتهم وقلّة خبرتنا. ما إن قام الكفرة بفتح النار على رفيقي المرحوم الحاج بو شعيب حتى أمطرناهم بوابل من الرصاص الحي، أمضوا أكثر من شهرين في البحث عنا ولم يتوصلوا لأي شيء". وقد كان يتحرّى الصدق في كلّ كلمة يتفوّه بها.
وعلى الرغم من إيمانه القاطع بأهمية المقاومة المسلحة في تقرير مصير الشعوب المحتلة إلا أنه كان شيطاناً أخرس عندما يتعلّق الأمر بقضايا الأمة وهمومها. كان يفضل أن يحتفظ بآرائه لنفسه، علماً منه بأنّ للحيطان آذاناً صاغية، رغم الجسارة التي تمتع بها وهو في بداية عشرينياته، حينما حمل السلاح دفاعاً عن وطنه. إلا أنّ مخاوف كثيرة كانت تسكن دواخله. يخاف من التعبير عن رأيه، ومن الموت ميتة عادية على عكس رفاقه الذين نالوا شرف الشهادة وخلد التاريخ تضحياتهم الجسيمة. لم تكن بطاقة المقاوم التي علقت في مدخل بيته تعني له شيئاً، لم تكن سوى اعتراف عارض بمساهمته في حرب التحرير التي لم تعد سوى ذكرى بعيدة لمعظم المغاربة، ولم تكن الغريمة التي حصل عليها بعد الاستقلال تكفيه لإعالة أسرته بعد أن أصبح من "معطوبي الحرب". أخذ منه الوطن كلّ شيء، أحلامه وصحته ومستقبله، ولكنه ظلّ مخلصًا للوطن رغم الظروف. وبعد انتهاء الحرب وتقاسم المناصب بين تجار الوطنية، أدرك أنّ تضحيته ستصبح ندمه الأكبر في الحياة. بات يتحسر على حال الوطن الذي لم يكن يخطو خطوة في الاتجاه الصحيح حتى يعود متقهقرا خطوتين.
جلس وحيداً في شرفة المنزل، يصله ضجيج أحفاده الخمسة من بهو المنزل، وقد وضع قناع الرضى جانباً ليحظى بقسط من الراحة ويمارس هوايته المفضلة، النكد. بدأ التقدم في السن يظهر عليه شيئاً فشيئاً، كلّ شيء زائل لا محالة، حتى القوة التي يتباهى بها الإنسان في شبابه محكومة بالزوال.
نام ليلتها على الشرفة نوماً هنيئاً ولم يوقظه أحد.