حكايات من البلد (5)
حدثنا أبو الجود، في سهرة الإمتاع والمؤانسة السابقة، عن رابع أبنائه "فيصل" الذي اشتغل في التشبيح، وحصل في أول صفقة تشبيحية على مبلغ مئة ألف ليرة سورية، وهو مبلغ كبير في تلك الأيام، قبضه من "معلم التشبيح"، ودحش رزم النقود في جيوب بنطاله وجاكيته العسكريين، وهب مسرعاً إلى القرية.
طلب الأصدقاء في السهرة من أبو الجود إكمال الحكاية، وتوضيح ملابساتها أكثر، فقال: أنا ومرتي وولادي التانيين ما كنا منعرف أي شي عن هالقصة، لأن فيصل كان مارق عليه أكتر من خمس شهور من دون ما يجي في إجازة. ولما شفناه فاتح باب الدار وداخل تفاجأنا، وفرحنا كتير، أم الجود، من كتر ما فرحت، صارت تهنهن وتزلغط، وفيصل صار يقول لها: هس، ببوس إيدك بلا فضايح.
وبعدما سكتت أم الجود تجمعنا حواليه أنا وإخوته وصرنا نبوّسه، ونرحب فيه، لكن هو كان مكركب وحايص، وبعد شوي تركنا وقال: أنا لازم إشلح تياب العسكرية وإلبس كلابيتي، هلق برجع ما بتأخر.
ودخل عالغرفة اللي كان ينام فيها هو وأخوه محمود، سكر الباب من جوة، وبعد شي ربع ساعة طلع، وكان في بوجهه حكي مخبيه.. ولما بلشت أم الجود تسأله عن أحواله، وسبب تأخيره.. وان شاء الله ما كان مريض أو مسجون؟ وكم يوم آخد إجازة؟ وأشو بيحب ياكل حتى تطبخ له؟ صار يتهرب، وقال لها: طولي بالك يام، معي مكتوب من رفيقي عبد العزيز الهايشة لأهله، لازم وصل لهم ياه ضروري..
وطلع من الباب، وأنا لحقته ع الدعسة، ومشينا سوا، ولما صرنا بعيدين عن الدار قلت له: تعال ولاك فيصل السرسري، هاي الحركات البايخة اللي بتعملها على أمك ما بتمشي علي. احكي لي لأشوف، أشو صاير معك؟
وقف فيصل ونفض تيابه اللي توسخت من الأرض وقال لي: أنت بتؤمر أبو الجود. راح إحكي لك وين حطيتهن. واللي بدك ياه بيصير
قال لي: ياب ما في شي.
قلت له: كذاب، أنا شايف إنك متورط بشي قصة، وضروري أعرف حتى إذا وقعت أعرف شلون أساعدك.
بلا طول سيرة؛ حكى لي فيصل قصته اللي حكيت لكم بعض تفاصيلها في السهرة الماضية. وهلق راح أكفي لكم ياها. يا سيدي، الرجل الإدلبي اللي اسمه أبو سمير، كان رافع دعوى قضائية على جاره أبو فطوم اللي عنده أرض متاخمة لأرضه، وفجأة قرر أبو فطوم يعمّر مدجنة، وكانت أرضه زغيره، فدخل على أرض أبو سمير، وقص منها شي تلاتين متر على طول الأرض، يعني بتطلع شي أربع أو خمس دونمات. راح أبو سمير أول شي لعند جاره أبو فطوم، وصار يحكي معه بلطف، سأله عن سبب هالتصرف العدواني، فأنكر أبو فطوم، وقال له: أنا عمرت في حدود أرضي.
أبو سمير أبرز له سجلات الطابو، فقال أبو فطوم: مية ورقة طابو بقشرة بصلة، أبوي الله يرحمه قال لي إن هاي حدودنا!
راح أبو سمير لحتى يشتكي عليه، في ناس نصحوه ما يشتكي لأن أبو فطوم مشارك في مشروع المدجنة عضو فرع الحزب (فلان)، وهادا فلان كتير مدعوم، لأن زوج أخته عضو قيادة قطرية، وبيعرف ضابط في القصر الجمهوري.. أبو سمير قال لحاله: وإذا كان عضو فرع وجوز أخته بطيخ مبسمر؟ البلد فيها قانون. ورفع دعوى، ومشي بالدعوى للأخير، وربحها، أبو فطوم استأنف، وأبو سمير ربح الدعوى في الاستئناف، وصارت مبرمة، وحطها في التنفيذ، وصار لازم دائرة التنفيذ تهدم قسم من بناء المدجنة، وتحدد تخوم الأرض بين الطرفين، يعني، باختصار، ترجّع الأرض المغتصبة لأبو سمير. هون بقى صار أبو فطوم يرشي موظفين التنفيذ، وهني صاروا يماطلوا بتنفيذ الحكم، وإذا حدا ضغط عليهم كان يتدخل عضو الفرع، والكل يسكتوا.. هيك لحتى غضب أبو سمير وصار يصرخ، والتقى فيه إبني فيصل وقال له (أنا بحصل لك حقك، لكن بشرط تدفع للمعلم).
أبو جهاد: هلق بلشنا نفهم القصة ع المظبوط. وشلون بقى معلم الشبيحة حل المشكلة؟
أبو الجود: معلم الشبيحة إيده طايلة في الشام، وعنده مية عضو فرع وقيادة قطرية بقشرة بصلة. بعت واحد من طرفه اتصل بعضو الفرع فلان من رقم غير معروف، وقال له: شو هاد يا رفيق؟ هلق صار حزبنا يعتدي على ملكيات الناس، ويتجاوز حرمة القضاء؟
وقبلما يجاوب عضو الفرع، الرجل سكر الخط. الاتصال التاني أجا لأبو فطوم هاي المرة، والصوت قال له: ولاك أبو فطوم الكر. تفو عليك من بين الناس. ولاك إنت مين مفكر حالك حتى تعمر مداجن بأراضي الناس؟ ترى ليك، بحضي أنا بدعس على رقبتك.
وسكر الخط.
وتلات أربع اتصالات من هالنوع، وبلشت التلفونات تشتغل بين إدلب والشام ومكان تواجد معلم التشبيح. لكن الاتصال الأخطر هو اللي تلقاه عضو الفرع فلان من صديقه اللي داعمه في الشام، وهمس له وقال له: ليك، ترى الحديدة حامية، والشغلة إذا ما حليتها يمكن ما توقف عند المدجنة والأرض.
خاف فلان وقال: لكان لوين بدها توصل؟
الداعم: الرجل (وذكر له اسم معلم التشبيح) إذا حطك في باله ع المظبوط، بدقيقتين بيحل الفرع، وبتصير أنت بره، يا إما بيترك الفرع ع حاله وبيستبدلك إنت.. ولما بيرتفع عنك الدعم، بيعملوا عليك دعوى احتيال، وبيزتوك في الحبس.
أبو الجود: وهيك انحلت القصة بسرعة، وتنفذ الحكم، وانهدت المدجنة، وتحددت تخوم الأرض، ودفع أبو سمير لمعلم الشبيحة 200 ألف ليرة، أخد إبني فيصل 100 ألف، يعني المعلم وفى بوعده مع فيصل. بتعرفوا لما فيصل حكى لي هالقصة أنا أشو عملت؟
حنان: أشو عملت؟
أبو الجود: طبيت حالي على فيصل متل القتيل، ووقعنا أنا وهو ع الأرض، وقلت له (ولاك سرسري أنت معك 100 ألف ليرة وأنا وأمك وإخوتك عم نعوّي من الجوع؟). قل لي بسرعة، وين حطيت المصاري؟
وقف فيصل ونفض تيابه اللي توسخت من الأرض وقال لي: أنت بتؤمر أبو الجود. راح إحكي لك وين حطيتهن. واللي بدك ياه بيصير.
(للقصة تتمة)