حكايات من البلد (2)
حكيت للأصدقاء، في مستهل سهرة الإمتاع والمؤانسة، كيف كنا نسهر مثل سهرتنا الإسطنبولية هذه في إدلب، ونحكي قصصاً طريفة، وكنا، أنا ونجم المجالس، القصاص الشعبي الرائع أبو النور، نخاف من أن نقع في التكرار، فنتعاون على رواية الحكاية التي يعرفها الآخرون بطريقة جديدة، ونُدخل عليها أحداثاً لم تكن موجودة في الأصل، حتى يلتبس الأمر على الذين سمعوها من قبل، فيعتقدون أنهم يسمعونها -الآن- للمرة الأولى!
بعد الاستراحة التي انتصفت بها السهرة، قالت أم زاهر إن الحكاية التي سمعناها من أبو المراديس تركزت على حنان الأم، ومثالها السيدة أم خلو، والدة الفتى المسطول فريد، وقد رأينا كيف لعب "فريد" بعقلها، واستغل أمومتها الفائضة، حتى صعدت إلى السقيفة، لتُحضر البرغل والفليفلة، وتصنع له كبة مقلية، وعندما أيقن فريد أنها صارت فوق، خطر له أن يمزح، والأصح يتبايخ، فأبعد السلم عن السقيفة، وقال لها: يام خليكي باركة فوق، وغني (يا راكب الحمرا كناطير).
أبو المراديس: الشي الجديد، اللي أضفناه للقصة أنا وأبو النور، إنه فريد، لما سأله أبوه: (ليش عملت هالعملة بأمك؟)، أنكر، وحكى له قصة غريبة.. لما كان عم يحكي القصة كانوا كل أفراد الأسرة مندهشين، لأن القصة تضمنت أكاذيب ومفارقات ما بتدخل بالعقل.
أبو محمد: شوقتنا لنعرف أيش قال فريد لأبوه.
أبو المراديس: قال له إنه هوي كان قاعد بغرفته (السجن)، بأمان الرحمن، وعم يتفرج ع الناس المارين في الزقاق، وفجأة شاف شي خمس نسوان جايات من آخر الزقاق، وعم يحكوا ويضحكوا ويمزحوا وكأنهن رايحات ع العرس، بالأول ما عرف مين هدول، لأنهن حاطات على رؤوسهن حجابات سود. لكن لما وصلوا قدام الشباك سمع وحدة عم تقول (هادا فريد قاعد في غرفته، معناها أم خليل موجودة في الدار).. وصاروا يدقوا الباب بالسقاطة، وفي وحدة منهن صارت تصيح (افتحي أم خليل. كأنك طرشانة؟).. وأم خلو فتحت للنسوان، ودخلوا، وبلشوا ضحك ومزح ولعب في أرض الديار.
أبو المراديس: لما فريد شال السلم المسنود ع السقيفة ما كان بيعرف إنه والدته كانت متخباية ع السقيفة! وهادا اللي صار
أبو خلو: النسوان اللي إجوا لعند أمك صاروا يلعبوا ويهيصوا؟ يخرب بيتك ما أكذبك، رفقات أمك كلهن عمرهن فوق الستين.
فريد: ياب أنا عم بحكي لك اللي صار، إذا بدك ياني إكذب، بقلك إنهن دخلوا ع السكت، وأنا يا دوب حسيت بوجودن.
أبو خلو: حسيت؟ ولاك ريت البمبة (القنبلة) تنزل ع راسك وما تحس فيها. تفضل كمل.
فريد: أنا مو الباب مقفول علي؟ ما شفت النسوان بعيوني، لكن صرت إسمع صوات اللعب، والضحك والسهسكة، وفي وحدة منهن عرفتها من صوتها، هيي الحاجة أميرة زوجة أبو سلمان الفستوك، هاي أكتر شي كانت مهورنة (أي شديدة النشاط والحركة والضجيج)، وسمعتها عم تقول: تعوا نلعب بالعصُّمَيْنَه، في وحدة ما عرفتها، قالت لها: ليش ما منلعب بالنط ع الحبلة، ومنعد شمس، قمر، نجوم، غيوم؟
أمي قالت لهن: أحسن شي الطميمة (الاستغماية).
هون يا ياب، الكل صاروا يركضوا، وبقيت وحدة في أرض الديار، وصار تسألهن: فَتَّح؟ بعد شوي ردوا عليها: فتح.
أم زاهر: اسمح لي يا أبو المراديس، بدي أقاطعك. بتعرف؟ أنا لو مكان أم خلو، ما كنت بتحمل كل هالكذب.
أبو المراديس: وهادا اللي صار، يمكن لأول مرة في حياة أم خلو بتتوقف عاطفة الأمومة تبعها، ومشيت باتجاه العتبة، وشالت فردة بابوج، وركضت على فريد وصار تضربه على راسه.. أبو خلو صار يتضحك، وقال لها: والله أنك مستاهلة. ياما قلت لك إنه واحد متل فريد ما بينفع معه غير الرق بالبابوجة. وما صدقتيني.
أبو محمد: والله هالحكاية ممتازة يا أبو المراديس. يا ريت تكمل حديثك.
أبو المراديس: وعلى حسب رواية فريد إن واحدة من هالنسوان الحركات النشيطات اللي وصفهن فريد بأنهن "مهورنات"، راحت لتتخبى، بحسب مقتضيات لعبة الطميمة، ودخلت ع الغرفة اللي فريد مسجون فيها، ولحتى ما يحكي ويفضح مكان تخبايتها، حطت إصبعها على تمها وقالت له: هس. لا تحكي شي، أنا مرت خالك أم محمود.
هون بقى فريد، باعتباره إنسان صاحب نخوة، وبعدما فهم إنه مرت خاله أم محمود مزنوقة، وعم تدور على مكان آمن لتتخبى، حكى معها بالهمس، وقال لها: هون بتنكشفي بسرعة، إذا بدك مكان الجن الأزرق ما بيوصلوا له افتحي لي باب هالغرفة حتى إطلع، وبدبر لك مكان.
همست في إدنه وقالت له: وين بدك تخبيني؟
قال لها: إنتي افتحي والباقي علي.
وبلا طول سيرة، أم محمود فتحت له الباب بصنينعة (يعني: بهدوء وحذر)، وطلع هوي وياها، وكان بذهنه يخبيها ع السور (الجَمَلون) اللي هوي دائماً بيتعربش عليه وقت بينزل ع الزقاق. مشي باتجاه غرفة الجلوس، كان السلم مسنود على حافة السقيفة، شالُه، وقال لأم محمود: (الحقيني)، وراح هوي وهيي على أرض الديار، حط السلم ع الحيط، وقال لها: اطلعي. طلعت. وين بقى القطبة المخفية في كل هالرواية؟
أبو جهاد: وين؟
أبو المراديس: لما فريد شال السلم المسنود ع السقيفة ما كان بيعرف إنه والدته كانت متخباية ع السقيفة! وهادا اللي صار.
أم الجود: دقيقة أستاذ. يعني هاي القصة ما فيها ولا شغلة صدق؟ كلها كذب؟
أبو المراديس: صديقي أبو النور اللي حكى القصة للأصدقاء لما كنا في إدلب، قال إن سبب الدهشة اللي ارتسمت على وجوه أسرة أبو خلو، إن أم خلو عندها عروق دوالي في رجليها، بالإضافة لانقراص في الفقرة الخامسة في عمودها الفقري، ويا دوب بتمشي بصعوبة، والحاجة أميرة زوجة أبو سلمان الفستوك اللي اقترحت لعبة العصُّمَيْنَه (واحدة تحني ظهرها والأخريات يقفزن من فوقها)، طريحة الفراش من ست سنين، وأم محمود، زوجة خال فريد، من حوالي سنة أعطتكم عمرها!