ثمن البطولة الفادح (2 من 2)

07 ديسمبر 2020
+ الخط -

تحتاج فكرة البطولة وارتباطها بموقع الرئيس إلى تأمل سريع لفهم موقعها المهم لدى المصريين وتفكيرهم السياسي.

بعد أن نجحت مصر في صد العدوان الثلاثي عام 1956 بفضل بطولات شعبية ومهارة سياسية ودعم دولي، استحق جمال عبد الناصر لقب (البطل)، لكنه برغم أن شهادات موثوقة تشير إلى تغير كبير في طريقة إدارته لعلاقته مع زملائه في مجلس قيادة الثورة بعد أن بدأ يتعامل مع نفسه كبطل شعبي، إلا أنه في الوقت نفسه لم يفقد قدرته على المناورة السياسية، خصوصاً بعد أن تعرض لأزمة الانفصال بين مصر وسوريا التي هزته بقوة، ومع أنه كان يجيد توظيف صورة البطولة على المستوى الإعلامي للمزيد من التعبئة والتجييش وتمتين الجبهة الداخلية، إلا أنه احتفظ بمرونة سياسية عالية واتخذ إجراءات عديدة في قراراته الخارجية تتناقض مع صورة البطل، وتضاعفت تلك المرونة السياسية عقب هزيمة يونيو 1967 التي سمح بعدها بدرجة محدودة من الانفتاح كانت تعتبر هائلة بمعايير ذلك الزمان.

أنور السادات الذي استحق لقب (البطل) بجدارة بعد حرب أكتوبر، تقول الشهادات الموثوقة من محبيه قبل المختلفين معه إن فكرة البطولة أثرت كثيراً بتوازنه السياسي بعد النصر، وحرمته كثيراً من مهارات المناورة السياسية التي تمكن بفضلها من التغلب على خصوم شرسين وأقوياء توقع الكل أن يفتكوا به، وحين نزلت عليه لطمة انتفاضة 18 و19 يناير 1977، لم يقرر السادات استعادة مهاراته السياسية، بل تصرف كبطل جريح آلمه الخذلان ونكران الجميل، وقرر المضي إلى أبعد مدى في كل الملفات، ودفع ثمن ذلك غالياً.

تعلم حسني مبارك الكثير من دروس السادات وعبد الناصر، وقرر أن تكون بطولته في الاستمرار، ولذلك وجد ضالته في شعار (الاستقرار)، مقرراً استخدام القمع دون هوادة فقط حين يتعلق الأمر بتحركات شعبية واسعة، وتخفيفه إلى أبعد مدى حين يكون مرتبطاً بتحركات نخبوية أو محدودة يمكن أن تكون مفيدة له لدى الجهات الدولية المانحة التي أدرك أن السادات كان محقاً في امتلاكها للغالبية العظمى من أوراق اللعبة، لكنه أدرك أيضاً أن السادات كان مخطئاً في إعلان ذلك، ولذلك قرر أن يفعل كل ما تطلبه منه أميركا وإسرائيل التي أصبح كنزها الاستراتيجي، في ذات الوقت الذي تقوم فيه أجهزة إعلامه بالحديث عن الإرادة الوطنية والشموخ السياسي، وتذكر بأمجاد العبور والضربة الجوية وأذكى جهاز مخابرات في العالم، ولذلك سرى العفن واستشرى في جسد الدولة والمجتمع دون أن يجد الكثيرون مشكلة في ذلك، بعد أن تحول الاستقرار من وسيلة إلى غاية وهدف وحيد.

 

إذا كانوا قد منحوه له على بياض فهذه مشكلتهم وليست مشكلته، ولذلك قرر إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية إلى أبعد مدى، ونجح في امتصاص تلك الصدمة، وقرر معاودة الحفر على الناشف، هوايته المفضلة، واستبعد من أجهزته كل من ارتخت قبضتهم الأمنية وتصوروا أن الدولة قد نجحت في فرض الأمر الواقع إلى الأبد

 

لذلك، لم يكن غريباً أن يبدي عبد الفتاح السيسي احتقاراً واضحاً لطريقة مبارك في إدارة الدولة التي تؤجل مواجهة الأزمات، وهو ما ظل يشير إليه في مواضع متفرقة في السنوات الأولى من حكمه قبل أن تتغير استراتيجيته ويجد أن الأفضل له إلقاء اللوم على "يناير" دون استدعاء ما قبل يناير، وهي استراتيجية تأكدت بعد لحظة الخضّة التي رافقت مظاهرات سبتمبر 2019 وتسريبات المقاول والممثل محمد علي وحديثه عن القصور الرئاسية وما رافق بناءها من فساد، ليقول السيسي صراحة إن كل الأجهزة نصحته بتجاهل ما جرى، لكنه قرر أن يتصرف كبطل وضع رأسه على كفه من أجل إنقاذ مصر، ويقول للشعب إنه ليس مهتماً بكل ما يقال عنه، وأنه بنى وسيبني ولن يتوقف عن فعل ما يريده لأنه لا يزال يمتلك التفويض الذي منحه له المصريون على بياض، وإذا كانوا قد منحوه له على بياض فهذه مشكلتهم وليست مشكلته، ولذلك قرر إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية إلى أبعد مدى، ونجح في امتصاص تلك الصدمة، وقرر معاودة الحفر على الناشف، هوايته المفضلة، واستبعد من أجهزته كل من ارتخت قبضتهم الأمنية وتصوروا أن الدولة قد نجحت في فرض الأمر الواقع إلى الأبد، ليستبدلهم بمن لا يكلون ولا يملون عن القمع، ومن يدركون أن الأمر الواقع ليس أبدياً، بل هو حالة مستمرة يجب التذكير الأبدي بسطوتها وفداحة معارضتها.

من هنا يمكن أن تفهم الإلحاح المستمر لجميع الأذرع الإعلامية على فكرة الحرب المستمرة التي تُشَنّ على مصر وكونها تعيش في معركة أبدية، وهو ما كان يقال في ظل رئاسة ترامب الذي كان يعتبر السيسي "ديكتاتوره المفضل"، فكيف سيكون الحال حين يصل إلى البيت الأبيض رئيس سبق له التنديد بالسيسي وبعلاقته بترامب، ولذلك لن يتوقف التذكير بتلك الحرب الأبدية، حتى حين يتمكن النظام من الوصول إلى تفاهمات ما مع سياسي براغماتي مثل بايدن، لن يجد مشكلة في لحس كلامه السابق المندد بالسيسي، واستبداله بكلام جديد قديم عن الضرورات الأمنية والمصالح الاستراتيجية.

مع الأسف، مهما تغيرت التفاصيل، لن تختفي فكرة الحرب الضروس التي تواجهها مصر، لأنه لا يمكن تصور وجود الحاجة إلى بطل دون حرب، ولأن الحرب أصبحت أبدية ولها أجيال تتضاعف أرقامها كل لحظة، فلا بد أن يكون وجود البطل أبدياً، ولا بد أن يعمل على أن يرثه أبناؤه من بعده، ليضمنوا استحالة فتح ملف المذبحة، التي ستكشف لكثير من زبائن الوهم أنه لم يكن هناك حرب حقيقية على مصر، ولم تكن هناك بطولة من أي نوع في قتل المدنيين، وأنهم شربوا أغلى المقالب وأكثرها فداحة ودموية، حين صدقوا أنهم بحاجة إلى بطل لحسم مشاكلهم وأزماتهم إلى الأبد.

يبدو التذكير بكل هذا الآن عبثاً وسط كل الأصوات العالية التي تتحدث عن الإنجازات ومعدلات النمو وشهادات المنظمات الدولية المانحة للقروض وصور المباني والمنشآت، والتي يرى الكثيرون أنها تستحق أن نضحي من أجلها ببعض الضحايا، خصوصاً إذا كان عددهم لا يتجاوز الآلاف في شعب يضيف إلى تعداده الملايين كل عام، لكن النظام نفسه الذي يطنطن بالإنجازات ويتباهى بها، هو الذي يقوم بزيادة عدد أعدائه وخصومه وبتأكيد مناخ الخوف والقهر، ليس لأنه غبي سياسياً أو قاصر عن إدراك الواقع، بل لأنه لا يستطيع أن يكون سوى نفسه، مهما ظن بعض مؤيديه أنه يستحق أن يكون أفضل وأشيك، لكنه في الوقت نفسه لا يتوانى عن فعل كل ما يمكن أن يؤدي إلى تمتين جبهته الداخلية المكونة من تحالف الجيش والشرطة والقضاء، وهو ما يمكن أن تقرأه في إدارته لملف الانتخابات الهزلية لمجلسي الشعب والشورى، والتي تمت التضحية فيها بكل من يشوش على الصفاء الداخلي الذي يحتاج إليه النظام بشدة في المرحلة القادمة، لأن الأبطال قد لا يحتاجون إلى السياسة، ولكنهم يحتاجون إلى أصوات عالية جعجاعة تشد من أزرهم وتدق طبول الحرب إلى جوارهم وتغلوش على أخطائهم وكوارثهم.

لكن، هل يعتقد السيسي فعلاً أنه بطل، أم أنه يضحك على نفسه مثل كثير من مؤيديه؟

لعلك الآن بحاجة إلى أن تعيد تشغيل ذلك الفيديو الذي تحدث فيه السيسي بمنتهى الجدية عن كونه طبيب الفلاسفة الذي يسأله الناس من شتى أنحاء العالم عما يجب عليهم فعله للتصرف في مشاكلهم وأزماتهم، وتذكر نفسك بعمق المأساة التي تعيشها مصر، والتي لن تجد لها حلاً ما بقي السيسي على رأس النظام، وهو ما يجعل السيسي برغم سيطرته الكاملة على مقاليد الأوضاع، يتصرف كأنه رئيس على كف عفريت، يحتاج إلى إخماد أي تحرك معارض أو صوت مزعج، وهو ما سيستمر حتى اللحظة التي يدرك فيها ملايين المصريين أن استمرار السيسي في الحكم أصبح أمراً يستحيل التسامح معه، وأن حكاية أخذه على قد عقله والتعامل معه كبطل صار ثمنها مكلفاً بشكل لن يتمكنوا من الاستمرار في دفعه، وعندها سيخرجون لإطاحته كما فعلوا مع مبارك في يوم الثامن والعشرين من يناير 2011، والذي قد ينساه الذين شاركوا فيه، لكن الضباط الذين شهدوه لا يمكن أن ينسوه ولا يمكن أن يتصرفوا بمعزل عن روحه وذكرياته، وقد يرى بعضهم بالتنسيق مع جهات خارجية أو داخلية لاستباق تلك اللحظة وإطاحة السيسي قبل أن يتكرر ذلك الغضب الذي ربما جاء هذه المرة أعمق وأوسع، وربما وجد هؤلاء ضالتهم في بطل جديد.

إذا بدا لك هذا التصور مضحكاً أو غير واقعي، فلعلك تحتاج إلى أن تراقب طريقة تعامل النظام مع الكثير من الأسماء البارزة في المؤسسة العسكرية خلال السنوات الماضية، وحرصه على إدارة جميع الملفات الحساسة من خلال دائرة ضيقة يمكن إحكام الرقابة اللصيقة عليها من قبل السيسي نفسه الذي سيظل حتى لحظة النهاية يصدق أنه بطل، والأنكى والأمرّ أنه لن يعدم من يشاركونه ذلك التصور، حتى وإن كانوا من ضحايا سياساته التي لن يدرك الكثيرون فداحتها وخطورتها إلا حين يأتي الوقت الذي يُفتح فيه ملف اللحظة التي أسست لكل ما جرى ويجري، لحظة المذبحة.

والله أعلم. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.