ترقية اللهجات العربية العامية... الأدوات والمخاطر
تُعدّ اللغة العامية أو المحكية ومفارقتها للغة الرسمية أو الفصحى ظاهرة طبيعية في كلّ اللغات ولا تمثل مشكلة في حد ذاتها، ولكن العلاقة بين اللغة (اللهجة) العربية العامية والفصحى، أو بالأحرى مساحة التباعد بينهما، تستدعي تدقيقا وتمحيصا، حيث إنّ تغوّل العامية العربية على الفصحى أو اللغة المنضبطة يحمل في طياته عواقب خطيرة تتعدّى الإطار اللغوي البحت.
من الظواهر المتعارف عليها تاريخياً، أنّ اللغات تؤثر في بعضها البعض وتتغيّر وتتبدّل بمرور الأزمنة بفعل البعد التاريخي والجيوسياسي من تمازج الشعوب عن طريق الهجرة أو التجارة، أو تصارعها كما في حال الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين، ولا تنسحب هذه التغييرات على المفردات اللغوية فحسب، بل تتعداها إلى قواعد الصرف والبناء اللغوي، وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى ذوبان اللغة الأصلية واستبدالها بلغة جديدة، وإن كانت من صلب اللغة الأصلية. فاللغة الإنكليزية القديمة لم تعد تٌفهم ولا تٌقرأ من قِبل الناطقين بالإنكليزية المعاصرة، وأصبحت في مصاف اللغات المتحفية أو التاريخية... إلى آخره من الأمثلة. لكن هذه الظاهرة لا تحدث في اللغة العربية لخصوصيتها المستمدة من كونها لغة القرآن الكريم، كلام الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعلى الرغم من ذلك، فقد دَأبت الكثير من الدول الاستعمارية، ومن يدور في فلكها من أبناء العرب والمسلمين على تأصيل اللغة العربية العامية من غير فتور ومحاولة إحلال اللهجات العامية محل العربية الأصلية أو الفصحى. ويتطلب ذلك ترفيع اللهجات العربية إلى مقام اللغة المكتوبة والمقروءة، حيث إنّ لكلّ لهجة عربية قواعد إملائية وصرفية خاصة بها، مما يؤدي حتمًا إلى تهميش اللغة العربية الأصيلة وذوبانها لاحقًا، وهو مطلب استعماري قديم ومتجدّد في آن واحد. وقد صارت هذه سياسة استعمارية جنبا إلى جنب مع سياسة إحلال لغة المستعِمر (كالفرنسية والإنكليزية مثلا)، محلّ اللغة العربية كلغة للتواصل في مؤسسات الدولة المستعمَرة، سواء كانت الإدارية أَم التعليمية أَم الإعلامية. فإن كانت سياسة الإحلال القسري للغة المستعمِر محل اللغة العربية سياسة عدائية صريحة تجلب على المستعمِر ردة فعل قوية، فإنّ محاولات إحلال اللغة العامية محل الفصحى تعتبر غزوًا ناعمًا أو تفتيتًا من الداخل ودسًا للسم في العسل.
أبناء العربية أنفسهم مشتركون في إضعاف مكانة اللغة العربية الفصحى أو المنضبطة على الأقل
هناك أمثلة كثيرة تثبت شغف الاستعمار الغربي بفكرة تأصيل اللهجات العامية لتكون لغات مناهضة أو بديلة للغة العربية. فقد قام المستشرق الفرنسي ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، لويس ماسينيون، بتأليف كتاب "لهجة بغداد العربية"، وقام المستشرق الألماني، فلهلم سبيتا، بتأليف كتاب "قواعد العربية العامية في مصر"، وعلى دربه سار المستشرق الإنكليزي، ويليام ويلكوكس، الذي عاش إبان الاستعمار البريطاني لمصر وتولى تحرير مجلة الأزهر عام 1883م، والذي عَزَا تأخر المصريين عن ركب العِلم والاختراعات إلى استخدام الفصحى وعدم اعتماد اللهجة العامية المصرية بديلًا لها... إلخ. كما كان لأعوان المستشرقين والمستعمِرين في مصر والمشرق العربي باع كبير في الترويج للهجات العامية بغية مزاحمة اللغة العربية مرحلياً، ومن ثم القضاء عليها نهائيًا، حتى وصلت بعض الدعوات (عبدالعزيز باشا فهمي مثلا) إلى حدّ المطالبة باستحداث لغات عدّة من اللهجات العامية، لكلّ منها قواعد منفصلة، بالإضافة لكتابة العربية بالأحرف اللاتينية، ومن الأمثلة البارزة لمن تبنوا ذات الفكر، نذكر هنا لطفي باشا السيد في مصر، وإسكندر معلوف وأنيس فريحة ومارون غصن في لبنان.
ومن المؤسف أنّ أبناء العربية أنفسهم مشتركون (دون قصد) في إضعاف مكانة اللغة العربية الفصحى أو المنضبطة على الأقل، بل هم أيضا منغمسون في تأصيل العامية الجامحة أو غير المنضبطة، فطبيعة اللغة العربية المكتوبة المستخدمة في منصات التواصل الاجتماعي خير دليل على ذلك، بالإضافة إلى لغة الحوار المستخدمة من قبل الإعلاميين بالفضائيات العربية عامة والمصرية خاصة، وفي المسلسلات والأفلام الكرتونية والإنتاج الفني المعروض على الشاشات العربية.
إنّ دعوات ترفيع اللهجات العامية إلى مَصَفّ اللغة المكتوبة هو بمثابة عملية عزل للغة القرآن عن مناحي الحياة والحضارة الإنسانية وهدم لتراث عربي إسلامي عظيم ووضع حاجز بين المسلمين ومصادر عقيدتهم. إنها دعوات هدامة ترتدي ثياب بناءة، ولذا فإن فضحها واجب على كلّ مسلم غيور على دينه.